تكنولوجيا
كيف أصبح تدفق المعلومات وسيلة للتحكم في العقول؟
10/05/2021 - 22:07
SNRTnewsلم يسبق للإنسانية على مر تاريخها أن تعرضت لهذا السيل من المعلومات. بفضل شاشات الحواسيب والهواتف والأجهزة اللوحية... صار بوسع البشر نهل كم هائل من المعارف بكبسة زر. علاوة على ذلك، أدى التطور الصناعي والتكنولوجي إلى توفير وقت كافٍ للحصول على المعرفة لفائدة الإنسان.
لقد كان هذا حلم الأقدمين؛ دمقرطة العلم والتكنولوجيا بغرض تحرير الإنسانية من "العبودية البيولوجية"، لكن هذا الحلم بعد تحققه يكاد يتحول إلى كابوس، فتدفق المعلومات على هذا النحو، حوّل مصادرها إلى أشبه بـ"سوق للمعرفة"، تتنافس فيه مختلف الأفكار على جذب انتباه الناس وإن عبر التلاعب بمشاعرهم وغرائزهم.
ذلك ما جاء في كتاب "القيامة المعرفية" (ترجمة تقريبية لعنوان الكتاب الأصلي "Apocalypse cognitive" الذي ألفه جيرالد برونر، بروفيسور وعالم اجتماع بجامعة باريس، وعضو بالأكاديمية الفرنسية للتكنولوجيا ونظيرتها الطبية.
ويرى الكاتب أن أدمغة البشر باتت تتعرض لما سمّاه "غواية الشاشات"، و"تستسلم لشتى أنواع الهراء والأفكار اللاعقلانية"، التي تتجول دون حسيب أو رقيب ضمن العالم الافتراضي، مما يهدد في رأيه الحضارة الإنسانية برمتها، كون تلك الأفكار عادة ما تحاول إثارة الانتباه عبر دغدغة غرائز الإنسان البدائي، الذي يكمن في بواطن كل فرد منا.
ويرى الكاتب أن الإنسانية وصلت إلى مفترق طرق حضاري، فعوض أن يكون انتشار قنوات المعرفة رافعة للإنسانية إلى مستويات أعلى، يكاد ذلك يحول البشر إلى دُمىً يسهل التلاعب بها. ذلك أن التعرض لكم هائل من المعلومات، التي تتراوح بين المعتقدات، الأخبار الزائفة، الأكاذيب... جعل من أذهان البشر ساحة صراع محموم بين الراغبين في السيطرة عليها ومن ثنة التأثير في سلوكيات الإنسان، إذ لا يتورعون بحسب الكتاب من العزف على وتر الميول الطبيعية للإنسان، واستغلال مواطن الضعف والهشاشة لديه.
وشدد المؤلف على أن الكثير من وسائل الإعلام، شركات الإشهار، المنظرون والإديولوجيون علاوة على السياسيين... يستغلون الشاشات ليخاطبوا غرائز الإنسان بدل عقله، ويستغلون عناصر عميقة ودفينة في ذواتنا؛ مثل تحريك الرغبة الجنسية، ثقافة الصراع، الخوف... وهي مؤهلات ساعدت الإنسان على تطوير الحضارة، لكنها تتحول الآن إلى سلاح ضد الحضارة نفسها.
ويرى جيرالد برونر أن "كل شيء من حولنا الآن مهندس لجعل الجانب المظلم والبدائي من عقولنا يسيطر على سلوكياتنا وحياتنا، لا يعني ذلك أنه ينبغي على الإنسان قمع نزواته البدائية، ولكن لا بد من الوقاية من تدخلها في الحياة العامة". فأدمغتنا مثلاً تحتوي على تاريخنا الإنسانية، بما في ذلك ثقافة العبودية، يقول الكاتب، وهو ما يجعل استعباد العقول وتوجيهها نحو خدمة مشاريع معينة أمراً يسيراً.
وكان الكاتب ذهب في حوار مع مجلة "لوبوان" الفرنسية، إلى إنه ثمة مؤشر مهم في تاريخ الإنسانية، يتعلق الأمر بمؤشر "الإتاحة الذهنية". وفسره بالقول إن المفكرين اعتبروا أن الإنسان سيتمكن من تحقيق إنجازات عظيمة، حين يتخلص من "عبوديته البيولوجية" (ضرورة البحث عن الطعام، الاحتماء من البرد والمخاطر...) لأن الوقت الذي تستهلكه هذه الأمور يسرق من مدى إتاحة ذهنه للتعلم والمعرفة...
ويضيف أنه ابتداءً من القرن 19 شرعت هذه الإتاحة الذهنية في الارتفاع، لتتضاعف بنحو 8 مرات، وذلك لكون بعض الوظائف التي كان الإنسان مكرهاً على القيام بها، اضطلعت بها الآلة في الوقت الراهن، وجاء الذكاء الصناعي بدوره ليغني الإنسان عن مجموعة من الوظائف، ما وفر للإنسان مزيداً من الوقت الذهني للتعلم والمعرفة.
ويرى الكاتب أن هذا الوقت الذي تم توفيره عبارة عن "كنز" للبشرية، لكن السؤال الذي يطرحه في كتابه هو "ماذا نفعل بهذا الوقت الذي وفرناه؟"؛ إذ يرى إن ذلك الوقت تتم سرقته من طرف "سوق المعلومات"، الذي يستغل الشاشات بالأساس، لا سيما أن 80 في المائة من إدراكنا الحسي يكون عبر قنوات بصرية.
وضرب مثالاً على ذلك بالمواقع الإباحية، التي تشير الدراسات لكونها الأكثر مشاهدة على الصعيد العالمي، فهي نموذج صارخ، ليس فقط على سرقة الشاشات للوقت الموفر، بل لما تقوم به الشاشات من تلاعب بغرائز الإنسان. فمحتويات تلك المواقع تعبر عن استغلال صناعها لغريزة بدائية لدى الإنسان، أي الغريزة الجنسية، وهكذا فإن البشر يبددون 629 مليون عام من "الإتاحة الذهنية" سنوياً في مشاهدة تلك الفيديوهات على موقع واحد ليس أكثر.
مقالات ذات صلة
نمط الحياة
مجتمع
عالم