نمط الحياة
كيليطو.. صدفة صنعت أسطورة شخصية
24/04/2021 - 22:17
مصطفى أزوكاحكان منذورا للتخصص في الأدب الفرنسي والأوروبي والكتابة عنه، لكنه شغف بالتراث السردي والعجائبي العربي، فأنجز أطروحة دكتوراه التي دافع عنها بجامعة السوربون قبل حوالي أربعين عاما، حول السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمداني والحريري. لم يكتف بالتدريس الجامعي، بل دأب على مفاجأة قرائه بكتب تنقلهم إلى عوالم من المتعة واللذة كما في كتب "الأدب والغربة" و"الحكاية والتأويل" و"الأدب والارتياب" و"لن تتكلم لغتي"... وآخر إصداراته "في جو من الندم الفكري".
"مصادفة" الجاحظ
في المحاضرة التي ألقاها بمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، يوم الجمعة الثالث والعشرين من أبريل، بدأ حديثه بالصدفة التي قادته إلى التعرف على الجاحظ و أدباء عرب قدامى آخرين. يقول: "كنت أعرف عناوين بعض كتبه، كتب لم أكن أتصور وأنا طالب، أنني سأقرأها في يوم من الأيام… لنقل إن الصدفة وحدها جعلتني أهتم بما كتب... نلت سنة 1966 شهادة الإجازة في الأدب الفرنسي، وكنت ملزما لكي أتابع تكويني بتحضير ما كان يسمي بالشهادة الرابعة، وكان الشرط أن تنجز في شعبة غير شعبة الانتماء مثل التاريخ والفلسفة والجغرافيا. وقع اختياري بتهور شديد على شهادة الأدب المقارن في شعبة الأدب العربي".
يضيف في مسار حديثه عن بدايات تعرفه على الأب العربي الذي كرس له حياته، هو الذي كان أستاذا للأدب الفرنسي: "لم أكن أخمن ما كان ينتظرني من الصعاب. كان المقرر يشتمل على درس في الأب المقارن، أوديب عند سوفوكليس وعند توفيق الحكيم. لكن المفاجأة كانت مع الدروس الأخري. في النحو كتاب "مغني اللبيب" لابن هشام الذي اعتبره ابن خلدون أنحى من سيبويه. لازلت إلي اليوم أذكره برهبة، من يستطيع قراءته؟ ثم كان لابد من الإلمام بعلم العروض والتمكن من تقطيع الأبيات الشعرية وتعيين بحرها. أما الفائدة الكبري فكانت في درس النقد القديم الذي كان يلقيه المرحوم أمجد الطرابلسي. قرأت ابن قتيبة، والآمدي، وابن طباطبا، والجرجانيان صاحب "الوساطة" وصاحب "أسرار البلاغة" وابن شرف القيرواني".
قارة فكرية ثرية
يقول "اكتشفت عالما جديدا، قارة فكرية ثرية. ومنذ ذلك الوقت، نشأ اهتمامي بالأدب العربي القديم، وتكونت لدي القناعة، سواء كانت خطأ أو صوابا، أن من لم يقرأ للمؤلفين الذين ذكرتهم لايعرف الشعر إلا بصفة سطحية". قد يكون ذلك الاكتشاف دفعه إلى الكتابة عن الأدب العربي، وبشكل مختلف يميزه عمن سواه من المؤلفين.
في تقديمه للمحاضرة التي ألقاها عبد الفتاح كيليطو، عاد الروائي والشاعر ووزير الثقافة الأسبق محمد الأشعري الى التذكير بما قام به كيليطو من دراسات وقراءات للأدب العربي والأدباء القدامى مثل الجاحظ والمعري. ذلك يعبر، حسب الأشعري، عن تجربة عميقة وجدية لعلاقة جدية مع نصوص ترجع لقرون خلت.
لـصاحب كتاب "الأدب والغرابة"، كما يلاحظ الأشعري، طريقته الفريدة في فهم النصوص العربية الكلاسيكية. فاللغة العربية لاتكفي كي يتحقق ذلك الفهم، وتقريب المسافة بين كاتب أو شاعر من القرن التاسع وقارئ من القرن العشرين، بل لا بد من فهم النسق الذي أنتجت فيه النصوص والمخاطب الذي توجهت إليه، على اعتبار أن النص يجيب على سؤال يطرحه المخاطب، ويفرض تعدد الأسئلة تعدد الأجوبة، ما يعني عدم إغفال علاقة التوتر التي تنشأ مع النصوص الكلاسيكية.
تمزيق أوراق التحضير
يعود عبد السلام بنعبد العالي، الكاتب وأستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، إلى الكتاب الأخير الذي أصدره كيليطو، "في جو من الندم الفكري"، الذي يتحدث عن أسطورته الشخصية. يذكّر بما قاله كيليطو الذي سعى طيلة سنوات الدراسة لتعلم اللغة الفرنسية، التي درس أدبها لمدة أربعين عاما، غير أنه لم يحتفظ بما ألقى من دروس حول الأدب الفرنسي، إذ كان يمزق أوراق التحضير، فلم يتبق أي أثر لسنوات من الكلام الأكاديمي.
لم يعنّ لكليطو إلا نادرا الكتابة عن الأدب الفرنسي، فقد آمن بأنه لن يضيف إليه شيئا، لأنه يرى أن أصحابه قتلوه دراسة وبحثا، وهم لا ينتظرون منه أن يأتي بجديد. هذا ما جعله يستسلم لشعور يصفه بـ"الساذج"، بأن الأدب العربي يحتاجه. ذلك اعتقاد راسخ تشكل لدى الكاتب الذي قد يكون درس الأدب الفرنسي والأوروبي بصفة عامة، كما يستنتج بنعبد العالي، كي يكتب مستقبلا بالعربية.
يرى بنعبد العالي وهو يحاول قراءة خلفيات الأسطورة العائلية أو الشخصية لكيليطو، أن انحيازه للأدب العربي، ينبىء عنه ذلك الإصرار والرغبة الملحة في الانفصال ونسيان الدروس التي ألقاها حول الأدب الفرنسي لمدة تفوق الأربعين عاما، بل إن رغبته الشديدة في محو تلك الدروس كانت تدفع إلى إتلاف أوراق التحضير وتمزيقها كي لا يبقى منها أي أثر، متأكدا أنه لن يكون في حاجة إليها، فالأدب الفرنسي ليس في حاجة لعربي كي يكتب عنه.
ينتبه بنعبد العالي إلى أن تمزيق أوراق التحضير سلوك يخالف ما درج عليه المشتغلون بالكتابة، الذين يميلون للحفاظ والعناية بمسوداتهم أو على الأقل تناسيها، كي يرجعوا إليها في ما بعد، وعندما يصر كيليطو على تمزيق تلك الأوراق، فلأنه مصر على القطيعة، ومقتنع بأن الكتابة والتأليف في مجال الأدب الفرنسي غير وارد، فذلك شأن أوروبي محض ولا سبيل لإلقاء أضواء جديدة عليه من كاتب عربي.
ما هو منوط بكاتب مثل كيليطو هو أن ينكب على الأدب العربي، الذي يمكن أن يضيف إليه جديدا، غير أن بنعبد العالي يتساءل حول ما إذا كان صاحب "لن تتكلم لغتي" قد ولى ظهره بالفعل للأدب الفرنسي، الذي درسه على مدى أربعين عاما. يلاحظ أنه استعمل كلمة "المحو" عندما كان يمزق أوراق التحضير، كي يفترض أن يكون ذلك، كما يبين الفيلسوف الفرنسي، ديريدا بعد ليفيناس، نوعا من "البقاء في المحو" أو "الحضور بالغياب".
دراسة الأدب الفرنسي للكتابة بالعربية
عندما يعبر كيليطو عن شعوره بقدرته على أن يضيف شيئا إلى الأدب العربي، يبرر ذلك بأنه ناجم عن اطلاعه على الأدب الفرنسي والأوروبي، بل إنه يذهب إلى القول بأنه قد يكون درس ذلك الأدب كي يكتب مستقبلا بالعربية. ذلك يدفع بنعبد العالي إلى القول إن الأدب الفرنسي كان له مفعوله على كيليطو ولم يمح أثره أبدا. فقد مكنه من العدة المنهجية التي تمكنه من الكتابة عن الأدب العربي.
غير أن كيليطو لم يشأ الكتابة بطريقة أكاديمية. لقد سعى إلي تجنيب القارىء الإحساس بالملل. هنا سيستنجذ بالجاحظ الذي يشبه ما سار عليه الكاتب الفرنسي "مونتين" بعد ذلك. لقد سار في الكتابة على نهج الجاحظ الذي أسس فن الاستطراد والانتقال المفاجىء من موضوع إلى موضوع. فقد عرف عنه انتقاله من الموعظة إلى النادرة، ومن الجد إلي الهزل. ذلك مسلك اختبره "مونتين" الذي كان يكتب بالقفز والوثب، كما يلاحظ بنعبد العالي.
هل ندم كيليطو على تمزيق أوراق التحضير؟ يعتبر بنعبد العالي أن القادم من ثقافة مختلفة يمكنه أن يلقي بعض الأضواء على ثقافات أخرى. فلو كتب كيليطو عن رواية لكوستاف فلوبير، كما طلب منه ناشر إيطالي، كان سيمنح مسحة عربية للرواية، نغمة مستطرفة ومميزة، شيئا لا يمكن أن يأتي به إلا قادم من ثقافة مختلفة غير أوروبية... ويخلص بنعبد العالي إلى أن المسألة بالنسبة لكيليطو ألا يكتب كالأوروبيين وأن يختلف في الآن ذاته عن المؤلفين العرب.
مقالات ذات صلة
نمط الحياة
نمط الحياة
نمط الحياة