عالم
أبناك كبرى في قلب جرائم الإرهاب وتبييض الأموال
24/09/2020 - 20:19
مهدي حبشي"رغم ما تمتلكه من نفوذ وسلطة، فالحكومة الأمريكية عاجزة عن وقف كل ذلك"، يُعلق الموقع المذكور بعد اطلاعه على "التقارير حول المعاملات المشبوهة"، وهي عبارة عن وثائق سرية ترفعها البنوك الأمريكية لجهاز مكافحة الجرائم المالية، في كل مرة تتم عبرها معاملات مالية موسومة بالغموض أو الشبهة.
الوثائق المسربة التي باتت تعرف بمسمى (فين-سين فايلز) "فضحت الفساد المالي الذي تسمح به الأبناك، في وقت تقف المؤسسات الحكومية متفرجة عليه وهو يزدهر" يضيف الموقع الذي اقتسم ما في حوزته من وثائق مع الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين، الأمر الذي حرك أزيد من 100 مؤسسة صحفية تنتمي لـ 88 دولة للمشاركة في تعرية فساد مالي مُستشرٍ.
2000 مليار دولار من المعاملات المشبوهة بين عامي 2000 و2017، هو الرقم الذي تمكن المحققون من تحصيله، من بينها 514 ملياراً عبر بنك "جي بي مورغان" الأمريكي، و1300 مليار عبر البنك الألماني "دويتشه بنك". لكن هذا الرقم الفلكي لا يعدو أن يكون قطرة في بحر الفساد المالي الذي يتجول بأريحية بين كبرى بنوك العالم، ذلك إن وثائق "فين-سين" لا تشكل سوى 0.02 في المئة من عدد المعاملات المشبوهة التي أحصتها البنوك بين عامي 2011 و2017.
ووصف التحقيق إجراءات الأمن البنكي بالجوفاء، كونها تسمح للكثيرين باستغلالها في جرائم مالية خطيرة: من قبيل جني أرباح ضخمة من حروب المخدرات، اختلاس ثروات البلدان النامية، الاحتيال على مدخرات جُمعت بشق الأنفس...
غسل الأموال.. أُم الجرائم المالية
ويعد غسل الأموال أخطر الجرائم المالية التي فضحتها الوثائق المذكورة، لكونه جريمة تسمح بحدوث أخريات؛ إذ يساهم في توسيع الفوارق الاقتصادية، استنزاف المال العام، بل حتى تقويض الديمقراطية وزعزعة استقرار البلدان. "الأبناك تغذي مأساة العديد من الناس الذين يموتون يومياً على صعيد العالم" يقول مارتن وودز، محقق مالي سابق لموقع بوزفيد الأمريكي.
القوانين التي وضعت أساساً للحد من هذه الجريمة، ساهمت بخلاف ذلك في ازدهارها. وبالرغم من التحذيرات التي توصلت بها من قبل السلطات الأمريكية (التي تلعب دوراً حاسماً في مكافحة غسل الأموال عالمياً)، والتي تصل أحياناً إلى فرض عقوبات تصل إلى مليارات الدولارات والتهديد بالمتابعة القضائية، إلا أن الأبناك المعنية تكتفي برفع تقاريرها حول المعاملات المشبوهة، دون حرمان نفسها من استيعاب الأموال المغسولة.
من المعنيون بالأمر؟
أصابع الاتهام تتجه إلى خمس مؤسسات مصرفية ضخمة: جي بي مورغان، HSBC، ستاندرد شارترد بنك، دويتشه بنك وبنك نيويورك.
وكان بنك HSBC، أكبر بنوك أوروبا، قد اعترف عام 2012 بأنه غسل ما لا يقل عن 881 مليون دولار لفائدة عصابات المخدرات في أمريكا اللاتنية. وأبرم عقب اعترافه اتفاقا مع السلطات القضائية بدفع غرامة قدرها 1.9 مليار دولار مقابل إلغاء المتابعة القضائية ضده، إذا ما التزم البنك بمحاربة المال الفاسد في غضون 5 سنوات. غير أن الوثائق الجديدة تفضح عدم وفاء البنك بأي من وعوده، إذ لا يزال مستمراً في إجراء معاملات لفائدة أشخاص مشبوهين، بعضهم متهم بغسل أموال روسية، أو تمويل التجارة الهرمية (بونزي) المحرمة، وآخرون معرضون للتحقيق في عدة دول. دون أن يمنع ذلك الحكومة الأمريكية عام 2017 من إعلان أن البنك "وفى بكل التزاماته" رافعة كل متابعة قضائية ضده.
حين "تتحالف" الأبناك في تمويل الإرهاب...
ذات حادث إرهابي استهدف حافلة في مدينة القدس عام 2003، اتهم أحد الضحايا "البنك العربي" الأردني بالسماح بمعاملات مالية مكنت من إنجاح العملية الإرهابية علاوة على أخريات. لتقود التحقيقات إلى كون "البنك العربي" مرتبطاً ببنك أكبر حجماً وأوسع نفوذاً. يتعلق الأمر بالبنك البريطاني "ستاندار شارترد"، الذي ساعد زبناء البنك العربي على ولوج السوق المالي الأمريكي، وذلك بالرغم من المشاكل التي لاحظتها السلطات المالية الأمريكية عام 2005، على مستوى نظام البنك العربي لمكافحة غسل الأموال، ودفعتها لإجباره على تقليص معاملاته المالية في الولايات المتحدة. وفي وقت يخضع البنك العربي للمحاكمة في أمريكا، واصل ستاندار شارترد علاقته به.
ففي عام 2012 جزمت السلطات المالية في نيويورك، بأن ستاندار شارتد "تآمر مع الحكومة الإيرانية"، وأفسح المجال لـ 250 مليار دولار من المعاملات السرية، ما سمح له بجني مئات الملايين من الدولارات عمولة، "لقاء ترك السوق المالية الأمريكية هشة في وجه الارهابيين، مهربي الأسلحة، بارونات المخدرات والأنظمة الفاسدة". وحكمت عليه بغرامة قدرها 227 مليون دولار، مقابل وعد باستبعاد "زبنائه المشبوهين".
إلا أن وثائق فين سين أبانت على أن وعد ستاندار شارترد لم يتجاوز الحبر على ورق، بحيث أجرى البنك 2055 معاملة بمبلغ 24 مليون دولار لفائدة زبناء البنك العربي بين عامي 2013 و2014، فيما حملت محكمة أمريكية عام 2014 هذا الأخير مسؤولية "دعم الارهاب عبر تمرير أموال إلى (حماس)"، الفصيل الفلسطيني المصنف إرهابياً من طرف الولايات المتحدة.
بنك جي بي مورغان... صديق الأنظمة المحاصَرة ومختلسي الأموال...
بنك "جي بي مورغان" تربع على عرش لائحة (فين سين فايلز)، إذ سبق له دفع غرامة تزيد عن 88 مليون دولار عام 2011، جرّاء خرقه الحصار الاقتصادي المفروض على إيران وبعض الدول الأخرى من طرف الولايات المتحدة. كما سبق للخزينة الأمريكية عام 2013 التنبيه للمشاكل التي تعتري نظام مكافحة غسل الأموال لدى البنك، مؤكدة فشله في ضبط كمية ضخمة من الأموال المشبوهة.
وفي عام 2014، دفع البنك 2.6 مليار دولار لقاء وضع حد للتحقيقات الجارية ضده حول مساهمته في خلق نظام تجارة هرمي مشبوه، يقضي مؤسسوه في الوقت الراهن عقوبات تصل إلى 150 عاماً سجناً، استفاد البنك خلال هذه العملية من أرباح قدرها 22 مليار دولار. لكن وثائق "فين سين" تجزم بأن البنك استمر في إجراء معاملات لفائدة أشخاص متورطين في الفضائح المالية المذكورة.
يبقى أشهرهم "جو لو"، رجل أعمال تتهمه عدة دول باختلاس 4.5 مليار دولار من صندوق تنمية ماليزي. وكان جو لو قد أجرى معاملات قدرها 1.2 مليار دولار عبر بنك جي بي مورغان بين عامي 2013 و2016، لتصدر سنغافورة مذكرة إيقاف في حقه شهر أبريل 2016، علاوة على كونه في عداد المبحوث عنهم من طرف السلطات الماليزية والأمريكية.
ويُتهم جي بي مورغان أيضاً بتحويل أموال لفائدة شركات وأشخاص متورطين في فضائح فساد في فنزويلا، ساهمت في إذكاء الأزمة الإنسانية هناك. بل إن البنك استضاف حساباً لشخص يدعى "أليخاندرو بيوخو استوريز"، موظف سابق في الحكومة الفنزويلية، ومتهم من طرف السلطات الأمريكية بالتورط في منظمة دولية لغسل الأموال.
كما يتهم القضاء الأمريكي أستوريز بتلقي رشاوي بين عامي 2011 و2013 لتفضيل مقاولين عن غيرهم في الحصول على صفقات عمومية في مجال الطاقة. وثائق "فين سين" أوضحت أن بنك جي بي مورغان، حول ما يزيد عن 63 مليون دولار لفائدة شركات مرتبطة بالمعني بالأمر، وبمنظومة غسيل الأموال التي أسسها بين عامي 2012 و2016.
ومن ضمن زبناء بنك "جي بي مورغان"، تظهر شركة "ديرويك أسوشياتس"، المتخصصة في معدات الكهرباء، والتي ظفرت بصفقات تزيد قيمتها عن 5 مليارات دولار دون طلب عروض، لإصلاح مشاكل شبكة الكهرباء في فنزويلا. وكان تحقيق أجرته منظمة ترانسبارنسي عام 2018، فضح مبالغة الشركة في تقدير فاتورة العملية بما يزيد عن 2.9 مليار دولار.
في حين بينت وثائق فين سين إجراء بنك جي بي مورغان معاملات مالية تزيد قيمتها عن 2.1 مليون دولار لفائدة شركة ديرويك بين عامي 2011 و2012.
فساد مالي بأبعاد سياسية...
50 مليون دولار، المبلغ الإجمالي الذي استقبله جي بي مورغان من "بول مانافورت"، المدير السابق لحملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. كما أجرى البنك ما لا يقل عن 6.5 مليون دولار من المعاملات المالية لفائدته خلال الأشهر الأربعة عشر التي أعقبت استقالته من الحملة الانتخابية، بسبب اتهامات بالفساد ضده، تتعلق أساساً بغسل أموال في إطار عمله لحساب حزب سياسي مساند لروسيا في أوكرانيا.
مشاكل في أنظمة الترصد أم ضلوع متعمد؟
(فين سين فايلز) بينت أنَّ البنوك لا تحرر تقارير حول أنشطة مشبوهة إلا حين يتعلق الأمر بمعاملة أو زبون سبق للصحافة تسليط الضوء عليه، أو حين يُطلب منها ذلك من طرف إدارة أو مؤسسة قضائية.
الاستجوابات التي أجراها الاتحاد الدولي لصحافة التحقيق في إطار بحثه مع نحو 12 مسؤولا سابقاً لدى HSBC، خلصت إلى نتائج متشائمة بشأن فعالية برامج مكافحة غسل الأموال لدى البنك. فقد اتفق المستجوبون على عدم تمكينهم من الإمكانات اللازمة لفحص تدفق المبالغ الضخمة، بحيث اكتفوا بإجراء فحوص سطحية، وحين يطالِبون بمعلومات حول مصادر تلك المعاملات، يصطدمون بأن فروع البنك خارج الولايات المتحدة تجهل كل شيء على الأرجح.
أهي حالات سهو ومشاكل في منظومة التعقب والمكافحة.. أم أن الأبناك تتستر عمداً على الفساد المالي؟ سؤال تصعب الإجابة عنه، إلا إذا أخذت بعين الاعتبار تلك الشكاوى التي رفعها الموظفان جوليان نايت وأنشومان شاندرا، ضد بنك ستاندار شارترد لدى محكمة فدرالية في نيويورك. والتي يدعيان من خلالها أن موظفي البنك المعارضين للمعاملات غير القانونية تعرضوا للتهديد والمضايقة، بل الفصل عن العمل في أحيان كثيرة.
ويروي المدعيان أنهما أكرها على ترك منصبيهما في إدارة البنك، بعدما عُرف تعاونهما مع مكتب التحقيقات الفدرالية (إف بي آي) بخصوص تحقيق حول معاملات البنك مع دول مُعاقبة مثل إيران أو ليبيا أو السودان...
الشكوى تتهم البنك بالانخراط في مخطط غسل أموال متطور، عبر تغيير أسماء الجهات الخاضعة للعقوبات الأمريكية في وثائق المعاملات، وعبر خلق نظام تكنولوجي مخادع، يسمع للمعاملات غير القانونية بالتخفي عن أعين السلطات الأمريكية. وهي اتهامات رفض البنك الرد على أسئلة الصحفيين بشأنها...