نمط الحياة
في نيويورك، "هارلم".. مركز "النهضة" الفنية الأفرو-أمريكية
24/05/2023 - 16:41
وكالة المغرب العربي للأنباء
انطلاقا من موسيقى الجاز وإلى البلوز، مرورا بكافة الأصناف الأدبية، انبثق عن فن المسرح والنحت ما أضحى يعرف ب"نهضة هارلم"، وهي حركة فنية ثورية ستترك أثرها في نيويورك، وباقي الولايات المتحدة وخارج الحدود.
تعود أصول هذه الحركة "الهوياتية" إلى بداية القرن العشرين، حين قررت موجة من الأفرو-أمريكيين يقدر عددهم بنحو 175 ألف شخص مغادرة جزر الهند الغربية وجنوب الولايات المتحدة، حيث سادت ظروف الاجتماعية غير المواتية، بحثا عن غد أفضل في الجزء الشمالي من البلاد، حيث ازدهرت الفرص الاقتصادية والحريات، والرفاه والتمكين السياسي.
هذه الموجة التي أطلق عليها اسم "الهجرة الكبرى"، جعلت من هارلم مركزا للسكان الأفروأمريكيين، مما حفز ظهور طبقة متوسطة جد نشطة، وازدهار حركة فنية رسخت معالمها، وقادتها شخصيات شهيرة من قبيل بيسي سميث، ولويس أرمسترونغ الذي سيبتكر أسلوب "السوينغ" (Swing) في موسيقى الجاز، ولانغستون هيوز (شاعر وصحفي)، وزورا نيل هيرستون (روائية)، والمثقفين ويليام إدوارد دوبوا، وألان لوك.
يشير الصحفي جوزيف دوغان إلى أن هذه الفترة البارزة في تاريخ هارلم ونيويورك ساهمت في ظهور عدد كبير من الموسيقيين والفنانين الملونين، على غرار ديوك إلينغتون، وكاب كالواي، وفاتس والر، وبيلي هوليداي"، مبرزا أن العديد من الأسماء تمكنت من بدء مسيرتها المهنية بفضل الشعبية التي كانت تحظى بها هذه الحركة الثقافية.
وفي مقاله المنشور على موقع "NYSmusic.com"، يوضح دوغان أنه بفضل الشعبية الكبيرة لنهضة هارلم، استقرت نوادي الجاز في هذه المنطقة، مثل "نادي كوتون" (Cotton Club) الشهير الذي احتضن حفلات لويس أرمسترونغ والعديد من الفنانين، مضيفا أن الرموز الحية لهذه النهضة ظهرت أيضا خلال هذه الفترة المحورية من الجهد الجماعي للارتقاء بمكانة الهوية الثقافية الأفروأمريكية. يتعلق الأمر بالمسرحين الشهيرين "قاعة الحمراء" (Alhambra Ballroom) و"أبولو".
وبفضل حركة "الهجرة الكبرى"، كانت هارلم مهدا لأبرز الشخصيات والمواهب والعلماء في ذلك الوقت. "فبين نهاية الحرب العالمية الأولى ومنتصف الثلاثينيات، ساهمت هذه المجموعة من الفنانين في انبثاق واحدة من أهم فترات التعبير الثقافي في تاريخ البلاد: نهضة هارلم"، كما ورد في الموقع الرسمي للمتحف الوطني للتاريخ والثقافة الأفرو-أمريكية.
هذه النهضة، التي تمت محاكاتها في كليفلاند (أوهايو) ولوس أنجلوس (كاليفورنيا)، تعد أكثر من مجرد "فورة ثقافية وإبداعية". فبالنسبة لألان لوك، الكاتب والأستاذ في جامعة هارفارد، والمعروف بكونه "عميد نهضة هارلم"، فإن الأمر يتعلق بـ"نضوج روحي" حو ل من خلاله الأفرو-أمريكيون "خيبة الأمل الاجتماعية إلى فخر عرقي".
هذه الانطلاقة الإبداعية أخرجت من دائرة الظل أعمالا عظيمة للفن الأفرو-أمريكي، وألهمت أجيالا من الفنانين والمثقفين. يبرز المتحف الوطني للتاريخ والثقافة الأفرو-أمريكية في مقال مخصص لهذه الحركة، أنه "تم نقل الصورة الذاتية للحياة والهوية والثقافة الأمريكية الإفريقية التي نشأت من هارلم إلى العالم بأسره".
وبالنسبة لكاتب المقال، فقد أعادت هذه النهضة، وبشكل جذري، تحديد المنظور الذي ينظر من خلاله الناس من باقي الأعراق، إلى الأفرو-أمريكيين وكيفية استيعابهم للتجربة الأفرو-أمريكية.
الكاتب الشهير والاس ثورمان، مؤلف رواية "The Blacker the Berry" الصادرة في 1929، والذي انبهر ب"الطابع التحولي" لهارلم، حيث تنتشر دور النشر وشركات الموسيقى والصحافة، كان يعتبر أن هذا الحي النيويوركي يعد بمثابة "أرض الإمكانيات الاجتماعية ,الشخصية الهائلة، بل أيضا الثورية".
وحرصا منه على الإسهام في دينامية الإبداع الثقافي هذه، أسس هذا الكاتب، إلى جانب العديد من قادة الحركة، ومن بينهم هيوز وهورستون ودوغلاس، مجلة "Fire". كان الهدف من هذه المبادرة، التي وصفتها "بي بي سي الثقافية" بالجريئة والمبتكرة، يتمثل في تشجيع ودعم أعمال الفنانين والمبدعين الشباب.
غير أن الكساد الكبير في عام 1929 أوقف زخم انطلاقة نهضة هارلم، لتبدأ في الأفول. إذ أثرت هذه الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة بشدة على الاستمرارية المالية للشركات والمطبوعات والمؤسسات والناشرين، المملوكة للأفرو-أمريكيين.
اليوم، تواصل بعض مظاهر هذه النهضة الفنية الصمود في وجه تقلبات الزمن، فيما رأت مبادرات أخرى النور بهدف تكريم جزء بأكمله من الذاكرة الإفريقية للولايات المتحدة. ولعل تأسيس فرقة "هارلم بلوز آند جاز"، في ثمانينيات القرن الماضي، يعد خير مثال على ذلك.
"حلمنا هو نقل هذا التراث الغني لتاريخنا إلى الأجيال القادمة"، كما صرح بذلك عازف الساكسفون في هذه الفرقة، خلال حفل موسيقي تم تنظيمه مؤخرا في مدينة نيو روشيل (ضاحية نيويورك)، احتفالا بشهر تاريخ السود.
فبرأيه، يتعلق الأمر بواجب حماية جانب مميز من التراث الأفرو-أمريكي، في مواجهة هجمات العولمة الجامحة، حيث تسعى الثقافة الأحادية لبسط نفوذها على حساب التنوع.
كريم اعويفية

مقالات ذات صلة
نمط الحياة
تكنولوجيا
نمط الحياة
نمط الحياة