مجتمع
أطفال الشوارع.. "القنبلة الموقوتة"
12/01/2021 - 16:20
مريم الجابريأينما وليت وجهك بشارعي محمد الخامس والحسن الثاني بالعاصمة الاقتصادية يتراءى لعينيك طفل أو طفلة في حالة مزرية، منهم من يتسول ويتوسل المارة، ومنهم من يطلب منك شراء وردة أو مناديل ورقية، بحثا عن لقمة تسد الرمق.
من قلب لسعات البرد
"أمين"، 12 سنة، وضعته أمه في دار خيرية بمكناس، إلا أنه خرج منها لأسباب وصفها بـ"القاهرة"، وقصد الدار البيضاء، "يقولون إنها مدينة تعج بالناس البرجوازيين"، بنبرة حزينة يعرب عن أسفه. كان هذا الحافز الوحيد الذي شجعه على المجيء إلى "المدينة الوحش".
في ركن ضيق بجانب مقهى شعبي، وسط شارع محمد الخامس، يجلس "أمين" بثياب ممزقة، ووجه بريء، يظهر عليه التعب والإنهاك، ندبات متفرقة في الوجه، يمد يديه الصغيرتين ليتوسل المارة، لعله يظفر ببعض الدريهمات ليسكت بها عواء معدته، التي تعودت على الجوع.
وفي الجهة المقابلة، صديقه البالغ من العمر 13 سنة، يحمل بين يديه صندوقا لمسح الأحذية، وعيناه تتلهفان لنداء زبون ما. جسد نحيف وشعر يكاد يغطي وجهه بالكامل، عينان تضيئان عتمة وجهه "المقهور"، وألم شديد جلي. بصوت حزين مختلط ببكاء صامت يقول: "أنا خدام على راسي، ولكن الناس ماكيرحمونيش". بعد عناء، اعترف أنه تعرض لاعتداءات جنسية من طرف غرباء لا يعرفهم.
"بسمة"، اسم على غير مسمى، بعمر 10 سنوات، تقف بجانب باب محل لبيع وشراء كل ما يخص الشكولاته، من حلويات ومزينات، وهدايا. تنتظر بفارغ الصبر خروج شخص ما نال ما طاب له بالمحل، لتستفيد من تلك المتعة، وتحظى بما تسد بها حاجتها.
كانت تلح على أن تنال حظها، خلال هذا اليوم، فعاودت الكرة أمام مقهى راق بوسط المدينة. وبكل ما أوتيت من قوة وشجاعة، تقول: "ما نمشي حتا ندّي حقي".
"بسمة" تعتبر ما يجود به عليها المارة حقها، كونها جزء لا يتجزأ من المجتمع، وتتجرع مرارة خيبة أمل أخرى، لا أحد يعيرها اهتماما، فقد ألفت لدى المتوافدين على المقهى.
وبقرب محطة للطاكسيات، يقف مراهق يناهز عمره 16 سنة، يحمل في يده منديلا مبللا بـ"الدوليو". بعينين محمرتين وجسد نحيل يعبر لـ"SNRTnews" عن سخطه على الوضع، ويستطرد قائلا: "أنا أعيش على أمل الهجرة إلى الخارج، وأحاول أن أجد فسحة ما قبل بلوغي سن الرشد".
وعند سؤاله عن سبب تحديده للسن، قال: "أنا أريد أن أستفيد من دور الإيواء الموجودة بإسبانيا. قال لي أحد رفاقي إنهم يساعدونهم على تعلم اللغة والتأقلم، وأحسن ممن نعيش معهم هنا". بهذه الكلمات أنهى حديثه، ليمتطي حافلة يجهل وجهتها باحثا عن لقمة عيش يسد بها جوعه.
وغير بعيد عن المكان الأول، بالقرب المدينة القديمة، يلتقط "منصف"، 15 سنة، أعقاب السجائر الملقاة من طرف المارة، غير آبه لا بوباء "كورونا" ولا بأي شيء آخر. وبصوت يكتنز سخطا كبيرا، يقول: "واش عندك أختي شي خمسة دراهم".
يرفض "منصف" التحدث حتى ينال ما يريده. تارة يقهقه، وتارة أخرى تملأ الدموع عينيه. يبدو أن مخلفات السيجارة و"السيليسيون" لم ترحمه. حكى قصته المتشابكة الخيوط، حيث اتضح أنه ابن مدينة مراكش، وأنه أتى مع والده الذي طلق أمه، إلا أن قسوة معاملته له أجبرته على الخروج إلى الشارع.
قانون غافل أو مغفول عليه
لبنى الصغير، المحامية بهيئة الدار البيضاء،اعتبرت أن القانون 65.15، الذي نشر بالجريدة الرسمية في 23 أبريل 2018، يعد النسخة الثالثة التي جاءت لتنظيم مؤسسات الرعاية الاجتماعية. وأشارت إلى مرحلة ما قبل صدور القانون 05.14 التي كانت مرحلة عشوائية، انطبعت بتبني مجموعة من المحسنين ومندوبية التعاون الوطني وبعض أجهزة الدولة لهؤلاء الأطفال. بعد ذلك، سيصدر القانون 05.14 المتعلق بشروط فتح وتدبير مؤسسات للرعاية الاجتماعية، والذي كان قاصرا ولم يعط مردودية.
وأضافت المتحدثة ذاتها أن الأمر حتم صدور قانون آخر، وهو 65.15، الذي تضمن 42 مادة تناولت بالتفصيل كل ما يتعلق بمؤسسات الرعاية الاجتماعية، ضمت متشردين ومتسولين أطفالا، شيوخا، وشبابا، معتبرة أن معاناة هذه الفئة كبيرة، خصوصا في موجهة البرد القارس التي تعرفها المملكة الآن.
وأكدت الصغير أن القانون 65.15 قدم تعريفا مفصلا للفئة التي تحتاج للرعاية الاجتماعية؛ إذ حددت الفقرة الثانية من الفصل واحد بدقة هؤلاء الأفراد، قائلة: "كل شخص يوجد في وضعية صعبة، منهم الأطفال المهملون، حسب القانون 15.01 المتعلق بكفالة المهملين، وذكرت الأطفال المتمدرسين والنساء في وضعية هشاشة، بالإضافة إلى الأشخاص المسنين والأطفال في وضعية إعاقة".
ما يزرعه المجتمع يحصده
أكد محسن بنزاكور، أستاذ جامعي في علم النفس الاجتماعي بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، أن وجود الأطفال في الشوارع سلوك إنساني غير سوي، لا ينطلق من العدم، بل هو مرتبط بعوامل مختلفة من فرد لآخر ومن مجتمع إلى آخر. وتساهم في انتشاره العديد من الاضطرابات النفسية والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، كما يعد موضوعا إنسانيا خطيرا ومأساة تتطلب حلا لما تخلفه من انحرافات وعواقب عديدة تنتشر في المجتمع.
وأوضح المتحدث ذاته أنه "لا توجد عوامل خاصة بهذه الظاهرة في حد ذاتها، بل إن معظم الدراسات؛ سواء في علم النفس أو في علم الاجتماع أو غيرها، تؤكد وبوضوح وموضوعية أن العوامل المتحكمة في بروز ظاهرة أطفال الشوارع هي نفسها المتحكمة في ظاهرة الانحراف عند الأحداث، وبالتالي، فإن استفحالها يؤدي مع الوقت إلى وقوع الأطفال في الانحراف والجريمة (التفكك الأسري، العنف، غياب التواصل، الهدر المدرسي، الهشاشة الاجتماعية، الإدمان...).
وفي ما يخص الواقع الأسري، فالحديث عن الأسر التي تعيش تفككا بسبب زيادة عدد الأطفال، يؤدى إلى تدهور مستوى المعيشة والدخل، وينتج عنه هروب بعض الأطفال، أو بسبب الانفصال الذي يحدث بين الأبوين نتيجة المشاحنات المستمرة، وإما بسبب العنف والهشاشة والإدمان، على حد تعبير بنزاكور.
واستطرد في حديثه قائلا: "هناك من يوجدون بالشارع بفعل علاقات غير مستقرة مع أسرهم، تتفاوت فيها فترات البعد عن الإقامة مع الأسرة، حسب اختلافات العلاقات معها، وهناك من خرجوا إلى الشارع بمعرفة الأسرة وبدافع منها للحصول على المال لمساعدة معيشة الأسرة".
فوجود أطفال في الشارع هو ضمن نسيج اجتماعي متماسك لمجتمعات الشارع اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، يساندهم على التكيف والبقاء بالشارع، مما يحد من القدرة على إنقاذ أو انتشال سريع لهؤلاء الأطفال والشباب من محيطهم، إلا في حالات قليلة من أطفال حديثي الوجود بالشارع، تقابلهم مصاعب في التكيف مع حياتهم الجديدة، ويترددون في الرجوع إلى التفكك وظروف العنف الموجود بأسرهم المعيشية.
من جهته، يرى محمد البرودي، الاختصاصي في العلاج النفسي، أن هناك مجموعة من الأسباب التي يخلفها تشرد الأطفال، كالاضطرابات السلوكية، والأمراض العضوية والنفسية، التي تنتج عن حالة القلق النفسي والوحدة التي يعيشونها، مما يؤدي بهم إلى نوبات عصب وانهيار، جراء ما ينعته به المجتمع.
إعادة تنشئة سليمة
واعتبر بنزاكور أن ظاهرة الأطفال في الشارع ليست من الظواهر التي يمكن القضاء عليها بسهولة، ولهذا فهناك حاجة إلى التخفيف من وطأتها بالاهتمام بهم وبظروفهم. فيحتاج الأطفال في الشارع إلى بناء علاقات ثقة واحترام ببالغين يهتمون بهم، ويحاورونهم، ويصغون إليهم، ويوفرون لهم فرص التعلم غير النظامي الذي يوسع مداركهم ووعيهم الاجتماعي، ويمكنهم من الاختيار الإرادي لنوعية حياة أفضل.
بنزاكور أوضح أيضا أن "هذا يتطلب من البالغين المهتمين بهم عدم فرض الحلول على الأطفال، ولكن يتطلب المصاحبة المستمرة لهم في حياتهم اليومية بالشارع، مع تقديم المساندات للتصدي لمشكلات الحياة اليومية دون شروط مسبقة ولاستثمار مهاراتهم وقدراتهم في تمهيد الطريق لإعادة التنشئة الاجتماعية للمساندة في إعادة دمجهم في سياق المجتمع، وهذا ما يمكن أن يقوم به الوسطاء الاجتماعيين المؤهلين للقيام بهذه المهمة".
وأشار إلى أنها حلول هيكلية وبنيوية لا تتسم بالموسمية؛ إذ كلما حل موسم البرد نلتفت إلى أجسادهم لحمايتها ونهملهم في باقي المواسم ونهمل حماية عقولهم وعلاقاتهم وشخصياتهم ومعنوياتهم.
كما يمكن أن تتدخل الجمعيات لمساندة الأسر لزيادة تماسكها، ولتعميق مبادئ التنشئة السليمة للأبناء الخالية من العنف في إطار برامج التربية الوالدية. ومن بين الحلول أيضا، زيادة قدرات الإدارات المدرسية على متابعة التلاميذ عن قرب، من حيث غيابهم وضعف إنجازاتهم وربط العلاقة مع الأسرة، حتى نقلل من ظاهرة الهدر المدرسي التي تغدي ظاهرة الأطفال في الشارع، مع الصرامة وروح المسؤولية التي يجب أن يتسم بها تسيير "دار الأطفال" والمعاملة المهنية والإنسانية التي يجب أن يتصف بها المربون لدور الإحساس بالأمان الجوهري في استقرار الأطفال ونموهم السليم.
وطبعا لن يتأتى ذلك إلا من خلال برنامج حكومي يتوخى بناء استراتيجية تهتم بالأطفال في الشوارع، ليس لمحاربتهم بل لمصاحبتهم من أجل حياة في الشارع تضمن التصدي للمشكلات في أفق إعادة دمجهم اجتماعيا، كما قال بنزاكور.
ويؤكد الاختصاصي في العلاج النفسي البرودي، في تصريحه، على ضرورة النهوض بالأطفال في وضعية الشارع، رغم مبادرات مجموعة من الجمعيات المغربية، التي يبقى دعمها غير كافي لتوفير الإيواء لهؤلاء الأطفال، باختلاف وضعياتهم وحالاتهم، معتبرا وجود أطباء نفسيين ومربين ومتخصصين داخل مراكز الإيواء، لمساعدتهم على التأقلم ومحاولة التخلص مما خلفه الشارع لديهم، وهو ما يسمى بالإدماج النفسي، مؤكدا على الإدماج المهني والتعليمي والتكويني، الذي يتيح له فرص للشغل.
البرودي يرجع أسباب انتشار العنف والإجرام إلى انتشار مجموعة من الشباب والمراهقين في الشوارع، الأمر الذي يزرع لديهم حقدا دفينا على مجتمع لم يرحمهم ولم يوفر لهم شيئا، وهذا سبب تفكير العديد منهم في الهجرة أو الانتحار أو التوجه للإدمان، وهي خيارات تمس في الأخير المجتمع برمته...
مقالات ذات صلة
مجتمع
تكنولوجيا
مجتمع