رياضة
عبدالقادر زيدان .. ديوان الكرة المغربية
21/02/2022 - 17:44
يونس الخراشيبدأت الحكاية سنوات الخمسينات من القرن العشرين. كان عشق كرة القدم أشبه بلوثة. ثم سرعان ما وجد عبدالقادر زيدان، التلميذ الموهوب والمجد والناجح في دراسته، قلبه يقوده إلى الملاعب. ثم صار حضور المباريات الكروية شغفا، والاهتمام بالأرقام والمعطيات سحرا.
ولأنه كان يميل إلى الكتابة والتسجيل، فقد انجذب عبدالقادر زيدان إلى تدوين كل ما يتصل بالمباريات التي كان يحضرها. وفي وقت لاحق، أصبحت العملية شأنا أساسيا ضمن يومياته. وصار زيدان، دون أن يدري، موثقا للكرة المغربية، بكل ما في الكلمة من معنى.
يحكي عبدالقادر زيدان، مثلا، عن ملعب مارسيل سيردان، الذي سيتحول لاحقا إلى ملعب الشرف أو الملعب الشرفي ثم ملعب محمد الخامس بالدار البيضاء، كما لو أنه يحكي عن جيبه. يقول لي، ذات مرة، رحمه الله:"هذا الملعب بدأ بمدرجات بسيطة للغاية. وأغلب أماكنه الأخرى كانت عبارة عن أرض متربة. أما محيطه، فكان عبارة عن خلاء. دخلت إليه صغيرا، وأعرفه جيدا".
ثم ينطلق في الحكي، ليصف المباريات الأولى بأدق التفاصيل. يسمي اللاعبين. ويدقق في من أعطى الكرة للمسجل. ويشير إلى الحكم. وقد يتوقف للحظات عند بعض اللحظات المهمة، ويغدق في وصفها. ويفتخر، بين الفينة والأخرى، بأنه عاش التاريخ، ويحكي عنه من هذا المنطلق. ويقول:"أنا لست ممن يقولون لك سمعت. بل أنا ممن يقولون لك رأيت. والحمدلله أن ربي متعني بذاكرة، وسجلت الأشياء كتابة".
عندما بلغ عبدالقادر زيدان أشده، وأصبح يملك حاسوبا، سينتهي به حلمه إلى توثيق المعطيات التي بحوزته إلكترونيا. أي نعم، فقد كلفه ذلك الكثير من الوقت والجهد. غير أنه لم يكن يأبه، بل كان يمضي، مثل أي فنان عاشق لفنه، في التدوين، ويشعر بالفرح الكبير حين يصل إلى أفق جديد. ثم يبرز في موقع فيسبوك، أو على أثير إذاعة، أو في صفحة جريدة، أو في قناة رقمية، أو غيرها، بشبابه الدائم البهي، وهو يتحدث عن واقعة، أو عن لاعب، أو عن حدث كبير، بثقة في النفس.
الذين شاهدوه، في وثاقي العربي بنمبارك، على قناة الرياضية، اكتشفوا فيه نجما أبهرهم. سحرتهم الحقائق الجديدة عن الجوهرة السوداء، وأُخذوا بصورة لموثق يكتب الشعر بالأرقام. بدا عبدالقادر زيدان في الفيلم منسجما مع الأحداث، إذ هو جزء صميم منها، بكل ما تعني الكلمة من معنى. لأنه عاش اللحظات، وتنفسها، وتجاوب معها، وأحب اللاعب العملاق، وتعرف عليه، وجمع ما يهمه من معطيات. وكان، بالنتيجة لكل ذلك، مشروعا، بل ومطلوبا أن يتحدث عنه.
من بين حسنات المرحوم عبدالقادر زيدان، الذي كان يعيش أيامه بين الدار البيضاء وبنسليمان، وبين رياضتي الركض والدراجات من جهة ورياضة التدوين من جهة أخرى، أنه كان يجمع الأرقام ومعها يجمع حب من يكتب عنهم. فتجده، مثلا، يزور لاعبا من القدامى، ليطمئن عليه. ويسأل. يستفسر. يستوثق. ثم يعيد ترتيب الأشياء، وتنقية الأرشيف، حماية لذاكرته التي لم تشخ أبدا، ولا تقهقرت مرة.
قال لي ذات يوم، رحمه الله:"سألت أحمد فرس عن أحد الأهداف التي أحرزها اعسيلة. فتحدث لي عنه. ولكن اعسيلة صحح له. وبالعودة إلى المعطيات الأدق في الأرشيف، تيقنت بأن اعسيلة كان بالفعل على صواب"، ثم زاد، وهو يبتسم، وشعره الأبيض الشائب يضيئه وجهه المشبع بالحمرة:"لقد حدث معي هذا لمرات. أعيد تصفية المعطيات وغربلتها، فأكتشف أنني إزاء فتح جديد".
هكذا إذن، كان عبدالقادر زيدان يزهد في أشياء كثيرة لأجل معلومة مهما بدت لغيره بسيطة. فيسافر إلى البعيد كي يتأكد. وحين يجد ضالته، بعد تعب وجهد، يشعر بالفرح الكبير. وسرعان ما يحمل الهاتف ليشارك فرحته مع من يحبهم. يقول لهم إنه سعيد للغاية كونه وجد رقما لم يكن يملكه، أو دقق معلومة كانت محل شك عنده، أو تأكد أن ما كان بحوزته صحيح مائة في المائة.
شيء واحد لم يكن يزهد فيه زيدان. هو رياضته. فقد كان يتريض، ركضا أو على الدراجة، أو مشيا فقط، في إحدى القرى ببنسليمان، ليبقى بذاكرة نقية، وبفكر منتش، ويزيد قدرته على الحركة. ثم يتأنق، ويصفف شعره الكثيف، ليكون بهيا في حضرة اللاعبين القدامى، ومن يطرق بابهم ليعرف الجديد، أو يعرض مشروعه الخاص.
قبل وفاته بأيام، قال إنه يحلم بشيء واحد لا غير. قالها مرارا. يريد أن يعطي. فقد كان مثقلا بحب العطاء لبلده. ويرى أن هناك ذاكرة غنية بالأحداث الكبيرة التي تستحق أن تروى. حلم بأن يستطيع الحديث في إذاعة، أو لموقع رقمي، أو قناة تلفزيونية، كي يشرك الناس في ماضيهم الكروي. يقول لهم ما لا يعرفون. يصحح لهم الصورة. يبهرهم بما لديه من جواهر. يطربهم بشعر الأرقام.
ولكن مات الشاعر، وبقيت قصائده ترثيه. وبقيت كلمته الأثيرة التي لن تنمحي :"فذكر".
مقالات ذات صلة
رياضة
نمط الحياة
نمط الحياة
نمط الحياة