مجتمع
ضريح جلال الدين الرومي .. عمائم وناي ودعاء وتسويق سياحي
15/08/2022 - 22:03
يونس الخراشيمشهد رقم 1 .. في الطريق نحو ضريح مولانا..
أشار الولد، الذي كان يجلس على حافة الحوض وبين يديه كتاب، إلى أن متحف "موفلانا" ليس ببعيد. استعمل الإشارة فقط، فيما تحدث شاب آخر، كان يجلس غير بعيد منه، بعربية مكسرة بالتركية قائلا:"موفلانا كريب (قريب). عشرة دكيكة (دقيقة)". فعرفنا أننا في الاتجاه الصحيح، ولم يعد يفصلنا عن الضريح الشهير لجلال الدين الرومي سوى بضعة دقائق، وشيء من الصبر، ولحظات من المشي.
وإذ انتقلنا إلى الجانب الآخر من الطريق، لنقطع حديقة علاء الدين، أحد سلاطين السلاجقة، عرضا، كي نختصر المسافة إلى ضريح مولانا، أو "موفلانا"، كما ينطق الأتراك الكلمة، إذا بنا أمام تلة خضراء، كلها عشب جميل، يفترشه العشرات هنا وهناك، وتتخلله أشجار مختلفة الأشكال، باسقة، وبظلال وارفة. وقَتْنا، للحظات، من سطوة أشعة الشمس الحارقة لشهر غشت. فقونيا، المدينة الجنوبية، بصيف حار جدا، وشتاء بارد للغاية.
سرنا لبعض الوقت على الطريق التي تتوسط الحديقة، حتى بلغنا الأدراج المفضية إلى الجانب الآخر. وإذا بنا، هذه المرة، أمام نافورة جميلة، يتصاعد منها الماء. في كل درج أنابيب تفرغ ما تحتويه من مياه، فيما يطل عليها من الأعلى صرح من رخام أبيض. وللوصول إلى الجانب الثاني، يتعين تجاوز سكة ترامواي قونيا.
لم يتغير شكل الشارع، الذي برز أمامنا، في تلك الأثناء، عن الذي أفضى بنا من الفندق إلى حديقة علاء الدين. فعلى الجانبين ظهرت عمارات بسيطة الشكل، وغير عالية، بنوافذ كبيرة، وبأسقف مثلثة عليها قرميد أحمر لتفادي تراكم الثلوج أيام الشتاء. كما ظهرت المحلات التجارية في الجانبين، جلها لبيع المأكولات والمشروبات، والبقية لبيع الملابس، وتذكارات المدينة، وضريح جلال الدين الرومي، ومتعلقاته.
مشهد رقم 2 .. نشاط وحركية غير معهودين..
بدا المكان صاخبا على غير ما عايناه طيلة أيام الأسبوع الأخرى. وقيل لنا إن الأمر يعود لسببين، على الأرجح، أولهما أننا كان في يوم سبت، وأهل المدينة في راحة، يستغلونها لقضاء مآربهم، والثاني لوجود دراجين كانوا يستعدون لسباقات ضمن الدورة الخامسة لألعاب التضامن الإسلامي. مع ما يقتضيه ذلك من وجود لرجال الأمن، والمنظمين، وغيرهم، وما يجره من فضول الناس للمعرفة والمتابعة، والكلام.
حتى الوجوه كانت أكثر نشاطا من كل الأيام السابقة. منطلقة، وجسورة، وفيها مرح. والأصوات أعلى، والصخب ملحوظ ومحسوس. وكلما تقدمنا خطوة إلى الأمام، في رحلة العشرين دقيقة من الفندق إلى ضريح مولانا جلال الدين الرومي، إلا وشعرنا بأن المدينة تغيرت. صارت مندفعة، وفوارة، وهادرة. مثل نهر منطلق بقوة، بفعل تساقطات رعدية عابرة.
أما أشعة الشمس الحارقة فلم تزل هي نفسها، دون أي تغيير. كانت تتهاوى على رؤوسها مثل موجات كهربائية لاسعة، دون أن تحدث تعرقا وشقا في النفس، ونحن نمضي وسط حشود من الذاهبين والآيبين. وفي كل مرة نجد أنفسنا أمام متحف جديد، عبارة عن مسجد بني منذ مئات السنين، بالحجارة الصلبة والضخمة. فيشدنا التاريخ، بسلطانه، إلى ما مضى، ويجرنا فضولنا لنشاهد الماضي ونشم بعضا من رائحته. ثم نواصل المسير، وبين خطوة وخطوة محل للأكل أو للملابس، أو لبيع التذكارات، أو سقاية "سبيل"، تحلق البعض حول حديقتها، فيما انتهز آخرون الفرصة للشرب، أو تبريد اليدين والوجه، أو الرأس. وتسمع كلمة "بالشفاء.. بالشفاء".
لاحقا، وقد بلغنا مفترق طرق يكاد يشبه دلتا نهر عظيم، إذا بنا نطالع ساحة فسيحة وضعت في مدخلها لوحة مشكلة من حروف اسم المدينة Konya، وفي اليمين جامع فاره، بقبابه المتعالية في السماء، اسمه جامع سليمية، وعلى شماله بناء بقببة كبيرة وأخرى صغيرة، ومئذنتين، يحيطه سور من الأحجار، واسمه متحف، أو ضريح، مولانا، أو موفلانا، جلال الدين الرومي، عالم الدين والصوفي والشاعر المتوفى سنة 1273.
مشهد رقم 3 .. متحف وضريح ونظام..
لكي تصل إلى مزار، أو ضريح، أو متحف، مولانا جلال الدين الرومي، صاحب المقولة الشهيرة "تعالَ .. تعالَ، لا يهم من أنتَ، ولا إلى أي طريقِ تنتهي، تعالَ .. لا يهم من تكون"، يتعين عليك أن تنصرف يمينا، حيث توجد المحطة النهائية للترامواي، في وسط الطريق، ومقبرة في اليمين، ومدخل على اليسار. وستدور يسارا، مرة أخرى، حيث بضعة قبور، ويسارا مجددا، كي تلج إلى ساحة المتحف، ويسارا حيث سقاية (خصة) كبيرة، عبارة عن نافورة بحوضها، ومخارج للماء. ما كل هذا اليسار؟
أما الدخول إلى الضريح، حيث مدفن جلال الدين الرومي، وبعض رفاقه من الدراويش ومريديه، والذي كتب على مدخله بخط ذهبي كبير "يا حضرت مولانا"، وبخط أصغر منه عبارات أخرى، ضمنها على الخصوص "مقام كعبة العشاق"، وعلته قبة، ومئذنتان، إحداهما خضراء قصيرة، يحتاج إلى الحذائين في وضع غلاف بلاستيكي أزرق، ثم السفر في عوالم ساحرة لا تتعدى مساحتها 200 متر مربع. ولكنها فسيحة، وبعبق مثير، وأنوار عجيبة.
وبعكس النبض الذي كان ملحوظا في شوارع قونيا المؤدية إلى المتحف الشهير، والصخب، والانطلاق، والفوران، فقد التزم المئات من زوار الضريح، دون أي اتفاق مسبق بينهم، بالصمت، والنظام، والتسامح. وهذا جعل الحركة، على ثقلها، سلسة، بما يتيح لكل زائر أن يتحرك نحو الأمام، حيث يرى، على يمينه، قبور المريدين، ولكل منهم شاهد عليه عمامة أو طربوش، لإبراز مكانته. وهناك قالت الهواتف المحمولة كلمتها، بحيث استدعت اللحظة تخليدها بصور أو فيديوهات.
ثم برز مدفن جلال الدين الرومي وسط كل تلك القبور، التي غُشِّيَتْ بغطاءات مزوقة، ووضعت عليها عمامات أو طرابيش دلالة المكانة التراتبية بين شيخ ومريد. إذ كان رجل أمن يقف عند الفسحة التي يوجد وسطها أكبر القبور، وفوقها قبة مزوقة، وبجدران منقوشة بآيات من الذكر الحكيم. وكان ملحوظا أن كل زائر يتوقف هناك أكثر مما توقف في مكان آخر من قبل، ويغمض عينيه، ثم يلهج بالدعاء.
مشهد رقم 4 .. الكلمة لصوت الناي..
عدا الرائحة الجميلة، وروحانية المكان، وتداخل التاريخي بالديني، بالأسطوري، وربما حتى الخرافي لدى البعض، فإن شيئا واحدا كانت له كلمته العليا في الضريح، وهو صوت الناي، الذي ظل ينبعث من كل جهة، ويعطي الإحساس للزائرين بأنهم في عالم آخر، لا علاقة له بالعالم الصاخب في الخارج. ألم يقل جلال الدين الرومي:"استمع إلى صوت الناي كيف يبث آلام الحنين يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنُ إلى أصلي".
في تعريف بسيط بمولانا، يقول محمد شيخ يوسف، من وكالة الأناضول:"وجلال الدين الرومي من أهم المتصوفين في التاريخ الإسلامي، حيث أنشأ طريقة صوفية عرفت بـ"المولوية"، وكتب كثيرا من الأشعار، وأسس المذهب المثنوي في الشعر، ونظم مئات آلاف أبيات الشعر عن العشق الإلهي والفلسفة"، ثم يزيد قائلا:"ولد الرومي بمدينة بلخ في خراسان، في 30 شتنبر 1207، ولقب بـ"سلطان العارفين" لما له من سعة في المعرفة والعلم، استقر في قونيا حتى وفاته في 17 دجنبر 1273، بعد أن تنقل طلبا للعلم في عدد من المدن أهمها دمشق".
ويقال إن جلال الدين الرومي، الذي تلقى العلم عن والده، أخذ تصوفه عن شمس الدين التبريزي، المنسوب إلى مدينة تبريز. إذ اعتكف معه لأيام طويلة، كتبا فيها "قواعد العشق الأربعون"، بحيث خرج الرومي من خلوته تلك برؤية جديدة للحياة كلها، فـ"أنشأ طريقة صوفية عرفت بالمولوية، وكتب كثيرًا من الأشعار، وأسس للمذهب المثنوي في الشعر، وكتب آلاف أبيات الشعر عن العشق والفلسفة" (أنيا قورو / وكالة الأناضول).
مشهد رقم 5 .. تسويق عالمي وسياحة مهمة..
قبل مغادرة المدفن، أو الضريح، يجد الزائر نفسه إزاء جملة من التحف النادرة جدا، كلها يدور في فلك مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حُسَيْنَ بَهَاءٌ الدِّين البَلَخي الْبَكْرِيّ، الشهير بجلال الدين الرومي. فمن مصحف قديم، إلى عمامة، أو قميص، أو سروال، أو كتاب، أو متعلقات أخرى، يقدم المتحف لزائريه فرصة للتعرف أكثر، وعن كثب، على الأسلوب الذي عاش به الرومي ودراويشه في القرن الثالث عشر الميلادي، وسط زخم صوفي روحاني خاص.
الترتيب المميز للمتعلقات، والذي ينتظم كل التفاصيل بالتتالي، ضمن صناديق زجاجية، يعطي فرصة للزائرين، جميعا، بالرؤية، والتمعن، وحتى التفحص، بسلاسة، إلى أن يجد كل منهم نفسه، وقد شبع من الدوران، وكأنه في رقصة دراويشية، بحاجة إلى الاستراحة. وهنا يأتي الدور على ذلك الصندوق العجيب، الذي وضع في الوسط، وعلته قبة مزوقة، ويعتقد كثيرون بأنه يتضمن خصلات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يظن آخرون بأنها خصلات لجلال الدين الرومي. ولكنه مغلق، ولا يبين منه شيء، فيما ينحني البعض، ليلصق أنفه بواحدة من الثقوب الأربعة عساه يشم رائحة يقال إنها لا تضاهى.
في الخارج، حيث ما تزال أشعة الشمس تتهاطل على الرؤوس، مثل موجات من الكهرباء، يجد الزائر نفسه مجذوبا إلى إتمام دورته. إلى اليسار، دُرْ. بحيث يتعرف عن كثب، وبتفاصيل أهم، وأكثر دقة، على الأسلوب الذي عاش به الرومي ودراويشه، ومريدوه. ففي بيوتات صغيرة جدا، وضعت مجسمات للرومي وحيدا، أو مع التبريزي، أو معه وغيره، أو مع علماء آخرين، في ما يشبه الإطار الواقعي. فها هو بجبته، وعمامته، يفترش الأرض، وهو منغمس في الذكر، أو في مجلس الطعام، بانتظار الأكل، الذي يجهز في مطبخ خاص، أو في حديث مع أصفيائه، فيما بعض المريدين على أهبة لتلبية الطلبات.
وفي كل ركن، وكل غرفة من تلك الغرف، التي يسوق بها القائمون على المتحف، سياحة دينية بامتياز، تجذب الملايين، بالملايين من العملة المحلية والصعبة، كل سنة، من داخل تركيا نفسها، ومن أنحاء العالم، توجد متعلقات، من تسابيح، وجبب، وعمامات، وطرابيش، وزرابي، ومخدات، وصور أيضا، ومصاحف، ووثائق، وأقلام، ومحبرات، وأشياء أخرى كثيرة تفتح للزائر نوافذ على الماضي، ليدخل ويرى.
فلاش باك .. نهاية مفتوحة..
في نهاية الجولة، تجد نفسك بالضرورة تستعيد الرحلة من قبل البداية إلى أن تصل إلى حيث أنت. وتكتشف، بسرعة، ودون حاجة إلى الكثير من العلم، أن هذه المدينة، التي هي قونيا، تقوم على هذا المتحف، بذلك الضريح، بذلك الرجل المتصوف، بتلك المتعلقات، وبذلك العزف، وبتلك التسابيح، وبـ"قواعد العشق الأربعون".
فالناس في قونيا، ولاية ومدنا تابعة، يعيشون على وقع المولوية إلى حد بعيد. ليس فقط من حيث ثقافة السلوك، بل وأيضا، وهو الأهم، من حيث استفادتهم من عائداتها عليهم، ماديا ومعنويا. وقد كنا في رحلة إلى مدينة بيشيهير، خامس أكبر مدن ولاية قونيا، حيث جامع أشرف أوغلو ومنبع أفلاطون والينابيع العلاجية، فبرزت الملامح نفسها، التي عشنا على وقعها لأيام بمركز المدينة قونيا.
هي صورة عجيبة بسطوة سحرها. ولكنها أقرب ما تكون إلى واقع، لا شك فيه أشياء أخرى لا تراها العيون العابرة. وتحتاج، بالقطع، إلى حلقات جديدة للمزيد من التفحص، واكتشاف المخبوءات في قلعة العشق الأبدي للرومي.
ألم يقل صاحب المدفن ذات مرة:"قد ينتهي طريق عند بيت واحد، لكن ليس طريق العشق. العشق نهر، إشرب منه".
مقالات ذات صلة
رياضة
رياضة
نمط الحياة
رياضة