اقتصاد
السيادة الغذائية بالمغرب .. رحلة البحث عن حبوب مقاومة للجفاف
27/03/2023 - 15:42
وئام فراج | فهد مرونيقضي باحثو المعهد الوطني للبحث الزراعي والمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة بالمغرب، ما بين 10 سنوات إلى 12 سنة، في تطوير أصناف جديدة من الحبوب المقاومة للجفاف والتغيرات المناخية، بحيث تتطلب هذه العملية نفسا طويلا وتجارب عديدة قبل التمكن من استنباط صنف جديد يوفر مردودية أكبر للفلاح ويساعده على تلبية حاجياته من الحبوب.
جيل جديد من الطبقة الوسطى الفلاحية
ويشرح هذه العملية الدكتور موحى فراحي، رئيس قسم التحسين الوراثي بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالرباط INRA، بالقول "إن تطوير الأصناف يبدأ بالتهجين ما بين صنف له خاصية وآخر له خاصية أخرى، وبعد ذلك نقوم بالانتقاء"، مضيفا أن "هذه المرحلة تستدعي المرور من 6 إلى 7 محطات للتجارب من أجل معرفة مردودية الأصناف المستنبطة ومدى مقاومتها للأمراض وقيمتها الغذائية".
وأكد فراحي، خلال حديثه مع SNRTnews، أن هذه العملية تتطلب، كذلك، العديد من الإمكانيات، "ما يستدعي إعطاء أهمية أكبر لتطوير الأصناف وتشجيع البحث الزراعي في هذا الإطار".
ويسعى الباحثون إلى تطوير أصناف زراعية جديدة تتكيف مع الخصوصيات المناخية لمختلف المناطق بالبلاد، تلبية لحاجيات المنتجين الذين يقبلون أكثر فأكثر على أصناف ذات إنتاجية وجودة عالية.
كما تروم هذه الأبحاث، التي يسهر عليها ثلة من الخبراء في المجال، إلى تحقيق أهداف الجيل الأخضر 2020-2030، عبر تحسين دخل المنتجين وتوسيع طبقة وسطى زراعية جديدة ستساهم لا محالة في الأمن الغذائي للبلاد.
وأصبح حاليا إنتاج أصناف جديدة، تتكيف مع التغيرات المناخية تحديدا، يزداد أهمية في أولويات برنامج التحسين الوراثي للحبوب في المعهد الوطني للبحث الزراعي بالمغرب، ويشمل هذا الأخير الأنواع الرئيسية؛ وهي القمح الصلب، والقمح اللين والشعير، ويهدف هذا البرنامج إلى تجميع المورثات المهمة وابتكار أصناف جديدة تتكيف مع جميع المناطق الزراعية بالمغرب وذات إنتاجية وجودة عالية.
ما هو التحسين الوراثي؟
يشرح الدكتور أحمد عامري، ممثل مقيم للمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة بالمغرب ICARDA ومحسن الحبوب، برنامج التحسين الوراثي بالقول: "إنه عبارة عن تهجينات واختيار ما بين سلالات الحبوب، من أجل التوصل إلى السلالة التي لها جودة عالية وتقاوم الجفاف والحشرات ومتأقلمة مع الإجهادات البيئية ومع الظروف المناخية في كل منطقة".
ويؤكد عامري، الذي يعمل لما يفوق 20 سنة على هذا البرنامج بالمركز الدولي للبحوث الزراعية بالمناطق الجافة، أن التحسين الوراثي لا يعني بأي شكل من الأشكال أن هذه الأصناف معدلة وراثيا "لأن المعدل الوراثي لا يعتمد على التهجين؛ إذ تهم التهجينات فقط نقل المورثات من أنواع مزروعة وبرية لها علاقة بهذه الحبوب".
وبدأ التحسين الوراثي للحبوب في المغرب منذ إنشاء أول مؤسسات مسؤولة عن التنمية الفلاحية في وقت الحماية، بحيث مر هذا البرنامج بعدة مراحل مختلفة، وفق معطيات المعهد الوطني للبحث الزراعي.
وركزت جهود الباحثين في التحسين الوراثي في البداية على جمع واستغلال البيانات الموجودة في جينات الأصناف المزروعة، ثم بعد ذلك استيراد أصناف جديدة من بلدان البحر الأبيض المتوسط ومناطق أخرى على غرار آسيا وأوروبا والولايات المتحدة.
ولوحظت بفضل هذه العملية زيادة في الإنتاجية بحوالي قنطار في الهكتار الواحد في بعض المناطق، خلال السنوات الأولى من الاستيراد إلى غاية عام 1950.
ويرى عامري، في هذا الإطار، أن إيجاد الصنف المناسب من الحبوب هو أهم عامل في الإنتاجية، يأتي بعده الري واستعمال المبيدات والأسمدة، مشيرا إلى أن "الصنف" عبارة عن مكونات جينية تشمل خصائص مقاومة للأمراض والحشرات والملوحة والجفاف والحرارة المفرطة.
ومن بين أهداف البحث الزراعي بالمغرب، التي تدخل في إطار استراتيجية الجيل الأخضر، تطوير 50 صنفا جديدا من الحبوب ما بين سنتي 2020 و2030، بالإضافة إلى هدف آخر، شدد عليه موحى فراحي، رئيس قسم التحسين الوراثي بالمعهد الوطني للبحث الزراعي بالرباط، يكمن في الرفع من المردودية بـ50 في المائة خلال الفترة ذاتها، "علما أن المعدل الوطني حاليا يصل إلى 20 قنطار في الهكتار، ونسعى في أفق سنة 2030 إلى الوصول لـ30 قنطار في الهكتار على الصعيد الوطني".
وأضاف فراحي أن هذه المردودية ستحقق بفضل استنباط أصناف جديدة من الحبوب تقاوم الجفاف، وبفضل التساقطات المطرية؛ "إذ تتطلب هذه الأصناف المستنبطة على الأقل 200 مليمترا من المياه لكي تعطي مردودية جيدة، ذات جودة عالية".
استنباط 3 أصناف جديدة من القمح
للتعرف أكثر على الأصناف الجديدة التي تم استنباطها بفضل البحث الزراعي، يقربنا موحى فراحي من آخر الأصناف المسجلة ما بين سنتي 2021 و2022، ويتعلق الأمر بصنف جديد من القمح أطلق عليه اسم "Nachit" أصدره المعهد الوطني للبحث الزراعي، وهو مشتق من صنف Farro الموجود في سوريا، والذي يتميز بحبوبه الكبيرة وجذور عميقة يمكنها أن تجمع الماء.
وأكدت الأبحاث أن هذا الصنف يلائم الهضاب الشمالية للمغرب والمنطقة السقوية في بني ملال، وسيسمح بتوفير غلة كبيرة.
أما الصنف الثاني، الذي أصدرته مقاولة "بنشعيب للبذور" فيحمل اسم "Jabal"، وهو نوع شديد الصلابة ويتميز بحجمه الكبير، بحيث يُتيح إمكانية توفير غلة كبيرة من التبن. وقد أظهرت الأبحاث أنه مناسب لتربة منطقة الأطلس والمناطق الجنوبية.
ويحمل الصنف الثالث، الذي تم تسجيله في السجل الرسمي للقمح سنة 2022 اسم "Jawahir"، واعتُبر من أفضل الأصناف إنتاجية، كما يتميز بمقاومته للحشرة الخطيرة "la mouche de hesse"، وهو مناسب لتربة منطقة سطات وآسفي.
60 مليون قنطار في 2022
أكد فراحي أن هذه الحبوب ستساهم بشكل كبير في تحقيق السيادة الغذائية الوطنية، مشيرا إلى أن المملكة مرت مؤخرا، على غرار دول أخرى، من مشاكل اقتصادية ناتجة عن جائحة كورونا والتغيرات المناخية، فضلا عن الحرب الروسية-الأوكرانية ما أثر على عملية التزود بالحبوب، "علما أن المغرب يستورد كميات كبيرة من الحبوب في المواسم الجافة".
فقد أضحى الجفاف معطى هيكليا في المغرب، وهو ما يتجلى على مستوى المحاصيل. فبينما تراهن الحكومة على محصول حبوب في حدود 75 مليون قنطار في العام الحالي، يدفع عدم انتظام التساقطات المطرية مؤسسات التوقع إلى خفض سقف الانتظارات.
وتوقع بنك المغرب أن يصل محصول الحبوب هذه السنة إلى 55 مليون قنطار؛ إذ ينتظر أن يتأثر بالمساحة المزروعة التي لم تكن قد تجاوزت 3,65 مليون هكتار حسب معطيات وزارة الفلاحة. وكان محصول الحبوب وصل في العام الماضي إلى 34 مليون قنطار، بعدما بلغ في العام الذي قبله 103 ملايين قنطار.
وتضاعفت واردات المملكة من القمح خلال سنة 2022، في سياق يتسم بانخفاض المحصول المحلي بسبب الجفاف وارتفاع الأسعار في السوق الدولية؛ إذ قفزت هذه الواردات من 46,6 مليون قنطار خلال سنة 2021 إلى 60 مليون قنطار في 2022، وذلك في وقت تشهد فيه أسعار القمح ارتفاعا بـ40,8 في المائة.
وحسب تقرير مكتب الصرف الصادر، يوم الأربعاء فاتح فبراير 2023، حول المبادلات الخارجية بنهاية سنة 2022، فقد كانت الواردات من القمح حاسمة في مستوى فاتورة الغذاء برسم سنة 2022، بعدما قفزت إلى 25,8 مليار درهم، مقابل 14,2 مليار درهم المستوردة عام 2021.
ويأمل باحثو المعهد الوطني للبحث الزراعي في إنتاج كميات كبيرة من القمح بفضل هذه الأصناف الجديدة للتخفيف من فاتورة الغذاء، معربين كذلك عن أملهم في إيصال هذه الحبوب لجميع الفلاحين في الوقت القريب لضمان السيادة الغذائية للبلاد في ما يخص الحبوب.
بدوره، يعتبر فيليبو باسي، عالم رئيس في المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة، أن الأراضي التي تتوفر عليها محطة التجارب مرشوش تعد من بين أفضل الأراضي في العالم لمختارات القمح الصلب، مشيرا إلى أن الباحثين يقومون بحوالي 3 آلاف تجربة في السنة للتمكن من إيجاد أصناف جديدة أكثر مقاومة للجفاف ومقاومة للتغيرات المناخية.
وللوصول إلى هذه النتيجة، يُقر الباحثون بارتكاب أخطاء متعددة تنتج عنها خسائر كثيرة، إذ يتطلب هذا البحث، وفق باسي، مراحل عديدة وصبرا كبيرا ودعما ماديا أيضا من أجل منح المزارعين منتوجا قادرا على تغيير حياتهم.
الرفع من الإنتاجية بـ50 في المائة
رغم الدور الذي يقوم به الباحثون في المجال الزراعي على مستوى سلسلة الحبوب، لاكتشاف أصناف جديدة من القمح والشعير، ودور مركز "إيكاردا" في توفير حلول علمية مبتكرة لتحسين سبل عيش الأشخاص ذوي الموارد القليلة في المناطق الجافة، تبقى أهم مرحلة لتحقيق الأهداف المتوخاة من هذه الأبحاث هي كيفية إيصالها إلى المزارعين وتحفيزهم على تجريبها.
لهذه الغاية يعمل المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة بالمغرب على إشراك الفلاحين خلال مرحلة التجارب من أجل اختبار هذه الأصناف واختيار المناسب منها، حسب خصوصية كل منطقة، بحيث تم خلال مرحلة تطوير أصناف جديدة من القمح الصلب والشعير إشراك أزيد من 30 فلاحا في هذه العملية من مختلف المناطق المغربية.
وحسب ما أكده نور الدين حداد، مساعد باحث بمركز "إيكاردا" بالرباط، لاحظ الخبراء أن هذه الأصناف الجديدة رفعت من الإنتاجية بنسبة أزيد من 50 في المائة مقارنة بباقي الأصناف التي يستعملونها.
وأوضح حداد، في حديثه مع SNRTnews، أن هذا النهج التشاركي الذي يعتمده المركز مع المزارعين يهدف أساسا إلى تقريب المسافة بينهم وبين المحسنين والمربين، مشيرا إلى أن محطة التجارب مرشوش الرماني التابعة لإقليم الخميسات، تحتضن في شهر ماي من كل سنة "يوم الفلاح" الذي يكتشف فيه المزارعون الأصناف الجديدة المطورة بالمغرب.
اقتناع المزارعين
عبد الله السليماني، رئيس تعاونية الهلال بجماعة مرشوش الرماني التابعة لإقليم الخميسات، أحد المزارعين المعروفين بالمنطقة الذين يشاركون في هذه التجارب، يروي لـSNRTnews، كيف ساعده البحث الزراعي في اختيار الأصناف المناسبة لحقله والحصول على مردودية أكبر من القمح الصلب.
يقول السليماني: "منذ تأسيس التعاونية ونحن على اتصال مع البحث الزراعي، بحيث يقوم الباحثون بتطوير أصناف جديدة ونجربها في الحقول لمعرفة مدى مردوديتها"، مضيفا أن التعاونية جربت حوالي 12 صنفا من القمح الصلب، وبعد ثلاث سنوات اختار فلاحو التعاونية ما بين 4 و5 أنواع ممتازة من القمح.
ويعود سبب اختيار هذه الأنواع، وفق السليماني، إلى جودتها العالية من حيث الشكل ومن حيث القيمة الغذائية، فضلا عن مردوديتها المضاعفة. ويتعلق الأمر على وجه الخصوص بصنفي "جبل" و"نشيط".
وأكد المزارع أن هذين النوعين مكّنا من تحسين المردودية مقارنة بباقي الأنواع، قائلا "كنا نصل إلى 25 قنطار في الهكتار والآن نحقق أكثر من 40 قنطار في الهكتار، كما أن لون الأصناف الجديدة من القمح جيد ويزيد من قيمته في السوق".
اقتناع السليماني بمردودية الأصناف الجديدة المبتكرة بفضل البحث الزراعي، يتقاسمه عبد الله بوناقة، فلاح بإقليم الخميسات، مؤكدا أنه حصل على نتيجة جيدة منذ بدء هذه الشراكة في سنة 2018، وهي نتيجة ساهمت فيها الأمطار الأخيرة التي عادت بالنفع على الفلاحين.
ودعا كل من السليماني وبوناقة إلى إيلاء عناية أكبر للمزارعين، بالنظر إلى توالي سنوات الجفاف وارتفاع أسعار المواد الأولية، مشددين على أهمية الدعم والاجتهاد في البحث الزراعي لتحفيز الفلاح على الاستثمار في أرضه.
كما يشدد الباحثون على أهمية تشجيع البحث الزراعي من أجل الاستمرار في استنباط أصناف جديدة، نظرا لتراجع قدرتها على مقاومة الأمراض مع مرور السنين، فضلا عن حاجة المستهلك إلى أصناف متنوعة من القمح والشعير ذات جودة عالية، وحاجة المملكة إلى توفير مخزون استراتيجي من الحبوب يساهم في ضمان الأمن الغذائي، مؤكدين أن هذا الأمر أصبح الآن ممكنا بفضل وحدات البحث المتعلقة بالتحسين الوراثي.
مقالات ذات صلة
اقتصاد
مجتمع
اقتصاد
اقتصاد