مجتمع
إيفران .. جنة تأخر ضيوفها كثيرا
05/06/2021 - 14:07
يونس الخراشيأسد وحيد..
غيرت السيدة، التي كانت تلبس جلبابا أسود وتضع منديلا مزوقا، وضعيتها، وابتسمت، كي يلتقط لها زوجها صورا أخرى بمعية "أسد إيفران". وبعد دقائق، صار الزوج، بلباسه الرياضي، وقبعته الأمريكية البيضاء، هو من يبتسم، فيما الزوجة تلتقط الصور بالهاتف المحمول. على مهل، أيضا/
"لم يكن هذا ممكنا من قبل". قال صوت حارس للسيارات من بعيد، سمع وكأنه قريب بفعل الفراغ والهدوء. ثم أضاف:"أن تلتقط صورا بمعية السبع، على مهل، ومن زوايا مختلفة، وبهدوء، لم يكن ممكنا من قبل. ولكن فعلتها الجائحة".
وحالما انتهى الزوجان من التقاط الصور، صار الأسد وحيدا تماما، خلف السياج الحديدي المصبوغ بالأخضر. حوله حشائش كبيرة، تكاد تهيمن على جسده الحجري الضخم. وفوق رأسه تتدلى غصون شجرة كبيرة، تحميه من أشعة الشمس، وتبديه كما لو أنه يتربص بفريسة.
في الجهة الأخرى، حيث تصلك الخضرة، من كل ناحية، بالجبال البعيدة، وحالما تجتاز الطريق، بلا انتظار أو ترقب، تجد سيدة واحدة فقط، على كرسي خشبي طويل، "تنصت إلى العظام". حين سألتها عن الطريق إلى "الضاية"، قالت إنها ليست من أبناء المنطقة، ومع ذلك، "فالضاية توجد، على الأرجح، في الجهة اليسرى"، حيث يلزم العبور إليها من ممشى خاص، نزولا عبر أدراج مرصوفة، مصنوعة من الحجارة البيضاء الجميلة.
كانت على حق. وكانت الطريق إلى "الضاية" فارغة. ومرآب السيارات أيضا. وحين برزت حوانيت خشبية صغيرة، حيث وضعت وعلقت تذكارات، صنعت في المنطقة، لوحظ أنها، هي الأخرى، بدون زبائن. وكأنها مجرد أروقة لمعرض قد انتهى، ولم يبق إلا أن يجمع أصحابه أغراضهم ويرحلوا.
بازار بلا زوار
قال الرجل، الذي جاوز الستين، إنهم يأتون (هو وأبناؤه) إلى محلهم، الذي لا تتجاوز مساحته مترين مربعين، وعلوه متران، كي يغيروا الأجواء. ثم واصل ترتيب بعض الأشياء، وهو يقول: "الحمد لله على كل حال. غاديين ندابزوا، بجهد الله، باش ناكلو الخبز". وابتسم ابتسامة لم تغير شيئا من ملامح وجهه المسنون، بتفاصيله البارزة، فيما كانت يداه ترتبان الأشياء المرتبة أصلا.
ما حدث لاحقا أن رفيقي، الذي اشترى بعض التذكارات، اكتشف، ونحن نتقدم إلى الأمام، في اتجاه "الضاية"، بأن الرجل لم يأخذ حقه، إذ أخطأ في الحساب. سُرَّ البائع حين استعاد خمسين درهما ضيعها على نفسه، وإن لم يحتفل بذلك. أما الصديق فقال لي: "هذا وحده دليل على أن هؤلاء الناس لا يبيعون شيئا ذي بال. فلكثرة ما يجلسون هنا دون أن يبيعوا شيئا، أخطأ الرجل في عملية حسابية بسيطة جدا".
وبين ذلك المحل ومحل آخر، حيث كان بائع شاب يستعد ليغمس خبزه في المرق، لوحظ بأن محلات أخرى غير مفتوحة. وقال الشاب، وهو يمسك بقطعة الخبز، إن "هذا الأمر عادي جدا، رغم أن الأمور بدأت تتحسن نسبيا".
راح يتحدث عن سلعته، ويؤكد بأنها الأفضل، وهو يستعد ليبيع بثمن جيد. ثم قال: "شخصيا أرى أن الأمور تتحسن، ولا أعرف لماذا يقول غيري العكس. أي نعم إيفران فارغة هذه الأيام، ولكن هناك ظروف سيئة جدا أدت إلى هذا الفراغ، وكلها تتصل بكورونا. وقد بدأ بعض الزوار يظهرون مع نهايات الأسبوع، وأتوقع أن الأعداد ستتكاثر شيئا فشيئا، وخاصة بعد انتهاء الامتحانات".
العسل المر
كنا نقترب من "الضاية"، التي لم تعد تفصلنا عنها سوى عشرات الأمتار، حين توقفت لأحدق في قنينات بلاستيكية مملوءة بـ"عسل"، وضعت على قارعة الطريق المفضي إلى قنطرة صغيرة، فيما صاحبها يفترش الخضرة، ويراقب من مكان قصي.
فجأة قام الرجل من مكانه، واتجه نحوي. ورغم أنني أشرت عليه بألا يتعب نفسه، لم يستجب. قال لي، وهو يبتسم: "إنه عسل ممتاز، لنحل يرعى بين شجر العرعار. أما الثمن، فلا أخفيك بأنه استثنائي". ولأني توقفت احتراما له، في انتظار أن ينتهي، فقد واصل، وهو يفتح قنينة من بين قنيناته، ويملأ عود خيزران صغير بالعسل، ويمدني به: "ذق هذه الحلاوة التي لا تضاهى. وأكرر بأن الثمن استثنائي بالنظر إلى الظروف".
سألته: "أية ظروف تقصد؟". قال لي، وهو يبتسم مجددا: "وكأنك لا تعرفها. هي الظروف التي جعلت المكان هنا فارغا، وجعلت مثلي ينتظر زوارا لا يأتون، وجعلتني أبيع العسل بثمن بخس، وجعلتني، أيضا، أنتظر فقط حلول موسم جني الخوخ لكي أنتقل إلى إيموزار حتى أشتغل هناك، عسى أن أوفر لأسرتي معيشها اليومي".
كان يُحكم إغلاق القنينة، وهو ينهي الكلام. ثم راح يخطو نحو موقعه الأول، كي يتمدد فوق العشب، دون أن يبدي امتعاضه من إحجامي عن الشراء. وإن ألح على أن الثمن استثنائي، وبأن العسل أيضا استثنائي، والظروف التي جعلته يبيعه بالثمن البخس هي الأخرى استثنائية.
وإذ كنت أمضي قدما نحو "الضاية"، التفت لأطالع ما يفعله الرجل، فإذا به قد ألقى بجسده على العشب، وشخص ببصره إلى السماء، فيما بقيت القنينات هناك في مكانها، تكاد لا ترى، إلا لمن يقترب منها، ويدرك، بفعل ترتيبها واللون العسلي، أنها مملوءة بـ"عسل"، ولا شك أن صاحبها يوجد غير بعيد.
ما هذا الجمال؟!
حالما أطلقت بصري في اتجاه "الضاية"، التي صارت قريبة حينها، غمرتني إيفران بجمالها، وخففت ألم المشاهد القاسية. فعلا، هو جمال فوق الوصف، سيما أنه غامر. يفيض من كل ناحية. يهجم على عينيك، وعلى حواسك الأخرى كلها، فينسيك ما عداه.
"الضاية"، التي تلبس الأخضر بفعل الشجر الوارف الذي يحيط بها، وينال من زرقة السماء الصافية الآسرة بعضه، كانت صامتة، وهادئة، ومطرقة. فعدد الزوار لا يتجاوز أربعة أشخاص. شابان وشابتان. بعض منهم يلتقط صورا، والبعض يرسل بصره ليشبع من جمال المكان. ويسمع، بين الحين والآخر، صوت يتأوه بفعل الفتنة المحيطة
وحدها الطيور، على تنوع أشكالها وأحجامها، كانت تتسيد المكان بحضورها وصوتها. تتحرك من ناحية إلى أخرى بطلاقة، فتعبر بك من الشجر المشبع بالخضرة إلى الماء الممتد الساكن، إلى السماء الفسيحة الزرقاء، إلى شجر آخر في ناحية ثانية، وقد يعبر من فوق رأسك، وكأنه يحييك، ويحيي فيك زوارا افتقدتهم إيفران، بفعل الجائحة.
من أجمل ما في جمال "ضاية لابريري"، كما سماها أحدهم، أن الذين هيأوها للزوار لم يتعسفوا عليها، بل جعلوا كل الإضافات؛ من قناطر وممرات وسياجات، وغيرها، جزءا منها. فلا يشعر المرء، وهو يتجول فيها، بأن "الضاية" خنقت. بل بالعكس، يتملكه شعور بأنه يكاد يمشي على الماء، ويسبح في الهواء، ويسافر في الهدوء، ويتنسم الأوكسجين لأول مرة في حياته.
إيفران من فوق
من ربوة يصعد إليها بالأدراج، وتعتليها كرة حديدية تضاء ليلا بأنوار خفيفة، يمكنك أن ترى إيفران كلها. أولا لنقل، يمكنك أن ترى إيفران من فوق، وهي تسبح فوق الخضرة. عبارة عن مبان بيضاء بسيطة تجللها أسقف مكسوة بالقرميد، كما لو أنها سفن متناثرة في بحر من الأشجار.
ومن هناك يمكنك أن ترى كل المعالم البارزة للمدينة، أو بعضها، إذ أن الأشجار الجميلة، والمتنوعة، والفائرة أغضانها تخبئ المعالم الأخرى، وكأنها تغريك بالتحرك، لتكتشف بنفسك جمالها، شيئا فشيئا، إذ أن اكتشافه دفعة واحدة غير ممكن. هو فعلا غير ممكن.
وإذ تتمشى لترى، ستعرف أن إيفران لم تتغير كثيرا عما كانت عليه منذ سنوات طويلة. فما زال هناك سوق مركزي صغير في القلب، ومسجد جامع كبير، فيما أضيفت بعض الفنادق، وأخرى تستعد لزوار محتملين، في حال الانتهاء من حالة الطوارئ. وفي الطريق يطالعك الملعب من بعيد، وترى لاقتات التشوير تهديك إلى فندق ميشليفن وجامعة الأخوين، وإدارات محلية متنوعة.
وفي الطريق، أيضا، تكاد تتعرف على الأشجار التي ظللتك من قبل، وأعجبك جمالها. وتشدك خضرتها، وإصرارها على أن تبقى شابة وفاتنة، تضاهي شباب وفتنة العشب على الأرض، وفي حواف الأرصفة، وبين ثنايا الصخور، وحتى بين أسنان القرميد فوق الأبنية. فكأنما البنايات، على أشكالها، هي الأصل، وكل الخضرة من حولها نبتت لاحقا.
ولا يفوتك أن تعجب بسلوك أهل إيفران إزاء مدينتهم الجميلة، والنقية. فهم من جعلها تبقى كذلك. لأنهم يحبونها كثيرا. وهو ما أكده صاحب محل لبيع المأكولات، يبدو فارغا، إذ قال: "الحمد لله، نحن في أحسن حال. نأكل الخبز، وننام بهدوء". ثم سأل وأجاب بنفسه: "هل تعرف ما الذي ربحناه نحن في إيفران؟ ربحنا راحة البال. فهل يملك الآخرون مثل هذا الهدوء الذي ننعم به نحن؟ من أين لهم به؟ وكم كانوا سيبذلون ثمنا له؟ نحن نحمد الله على ما نحن فيه، رغم كل شيء، وفي الأخير ننام بهدوء تام. وفي اليوم الموالي، ننتظر ما سيجود به الله علينا. الحمد لله".
مندوبية السياحة
حين سألت مسؤولا في مندوية السياحة، التي تقع في بناية صغيرة وجميلة في مركز المدينة، عن الوضعية التي يعيش عليها القطاع في المدينة، قال لي إن الجائحة أثرت على معاش الناس، لا سيما أولئك الذين يرتبطون بتوافد الضيوف على المدينة.
ثم شرح أكثر، بكلمات لا لبس فيها: "الحال لا يمكن أن يخفى على أحد. فالمدينة تقوم في الجزء الأهم من معاشها على السياحة. وتعرفون جيدا أن الجائحة أوقفت حركة الزيارات والأسفار كليا. وهذا جعل المدينة تعاني كثيرا. فلا يمكنك أن تتصور كيف لشخص كان يربح 5 أو 7 آلاف درهم في الشهر، ويبني عليها أموره؛ بما فيها الديون، عندما يصبح راتبه بين عشية وضحاها 2000 درهم في أحسن الحالات. المعاناة كانت كبيرة بالفعل".
وحين سألته عما إذا كانت الفنادق، حاليا، وبعد تخفيف الإجراءات الاحترازية، بدأت تستقبل طلبات للحجز، قال: "سأكون صريحا معك، فهناك اتصالات متعددة لأشخاص يسألون عن الوضع، وعن الأثمنة، وغير ذلك. ولكن لست أملك، بالتحديد، معطيات دقيقة عن حجوزات ما"، ثم قال، وهو يستعمل يديه، وكل ملامح وجهه، ليوصل معنى الأمل: "هناك ضوء في آخر النفق كما يقال"، ضحك، وواصل: "فأنتم تعرفون بأن الدراسة لم تنته بعد، وهناك امتحانات. ثم إن عملية التلقيح ما تزال مستمرة، وتعني الكثيرين. ولكن، شخصيا أرى ضوءا في آخر النفق. هناك شيء ما يعطيني الإحساس بأن إيفران ستتعافى قريبا".
شخص آخر، من أبناء المدينة، قال إن "إيفران تقوم بالفعل على السياحة، وبعض الأنشطة الغابوية والفلاحية، فيما جامعة الأخوين تشغل بعض أبنائها"، ونبهنا إلى أن المدينة، وكي يحافَظ لها على طبعيتها كونها منتجع سياحي "فهي تخلو من كل ما قد يلوث بيئتها. ويمكنكم أن تلاحظوا بأن إيفران تخلو، مثلا، من الميكانييكين، ومن أصحاب الحرف من هذا القبيل. خشية أن تفقد ميزتها المتمثلة في الهدوء ونقاوة الهواء. وهكذا، فالجائحة حينما نزلت بالمدينة، نالت من سياحتها، ومن تم من أبنائها"، وختم: "ومع ذلك، فالحياة تستمر. لا يمكنها إلا أن تستمر".
نهاية السير
حارسا السيارة، اللذان يقفان بعيدا عن موقفهما لتصيد الزبائن، تماما مثلما هو الحال بالنسبة لأولئك الشباب الذين يعرضون كراء شقق وغرف، قالا إن حالهما أحسن من غيرهم، وزاد الذي جاوز الخمسين: "شخصيا، أنتظر فقط بداية موسم الجني، كي أبحث لي عن فرصة عمل. هذه ليست حرفتي، ولا يمكن أن أواصل العمل بها طويلا. فللحق، هي غير منتجة، ولدي أسرة يتعين علي أن أوفر لها معاشها".
الحارس الثاني، الذي لم يتجاوز الأربعين، قال إنه لا يملك بنية تساعده على الاشتغال في الفلاحة، وزاد: "ما أرجوه أن تتحسن الظروف، وأن يحسن المشغل حينها أمورنا، من راتب وغيره. ولا أخفيك أن الأشياء بدأت تتحسن، فلعلك شاهدت توافدا نسبيا بداية الليل، إثر تخفيف الإجراءات الاحترازية، وحدث أن نهاية الأسبوع شهدت بدورها توافد الناس. وأظن أن نهاية الجائحة ستكون، إن شاء الله، نعمة كبيرة علينا. عليك يا رب".
وفي الطريق، الفارغة، والهادئة، والمحفوفة بالأشجار، وكأنها غابة رواية، واصلت إيفران الجميلة فيوضها وهجومها، بهوائها الذي يخترق الأنف، ومناظرها التي تسلب العقل، وهدوءها الذي تملأه الطيور بموسيقى لا تتوقف أبدا عن التطريب.
هي جنة تأخر ضيوفها كثيرا. وما أصعب أن تهيء كل شيء، وتتزين، وتؤتث بيتك، فينهكك انتظار الضيوف، وتكاد تشك أنهم سيأتون، ولا تملك إلا أن تنتظر، مطرقا إلى الطريق، عسى أن يبرز صوت يفرحك.
مقالات ذات صلة
اقتصاد
اقتصاد
اقتصاد