مجتمع
كورونا .. "ساعة سعيدة" في مركز للتلقيح
11/05/2021 - 08:26
يونس الخراشيالذهاب إلى موعد التلقيح ضد كورونا ليس نزهة. ومع ذلك، فلدى المغربي قدرة على أن يجعله كذلك. بكلمات، ومعان، ونظرات، وحتى صراخ، يصبح قصة تستحق أن تروى.
كلام المنتظرين..
في الباحة الخارجية للمركز الصحي لأحد الأحياء الأكثر شعبية في الدار البيضاء، حيث كان نسوة وبضع رجال ينتظرون، يوم الاثنين 10 ماي 2021، دورهم في التلقيح، طغى الحديث عن كورونا، وأشياء أخرى لها صلة بالصحة، والحياة كلها، بحلوها ومرها.
كانت أشعة الشمس، حوالي الواحدة ظهرا، تشبه طلقات رصاص تصب فوق رؤوس أغلبها غزاه الصلع، وتوقتها تلك التي غطتها المناديل، فيما راح "السكيريتي"، بلحيته السوداء الأنيقة، يصهل بصوت قوي، كي يسمعه جميع الحضور، من جيل بين الخمسين وخمس وخمسين سنة.
وحالما تجلس غير بعيد عن أحدهم، على الكراسي الخشبية، أو تقف إلى جانب آخر، بمسافة معتبرة، إن لم تعثر على كرسي شاغر، تجرك الابتسامة، ثم السؤال؛ أي سؤال غرضه فتح الطريق لحديث ما. وإذ ينطلق الكلام، لا ينتهي أبدا. ولو من قبيل:"واش أخويا حتى انت صيفطو ليك تجي زوالا؟".
قالت سيدة لأخرى تجلس غير بعيد عنها على كرسي بني:"لم أكن أنوي أن ألقح، ولكن كثيرا ممن أعرفهم ماتوا بسبب هذا المرض الفتاك. اقتنعت في الأخير، وطلبت من أبنائي أن يسجلوا اسمي. وها قد أتيت اليوم، بعد أن وصلني إشعار بالموعد والمكان".
بدا من الوجه الشاحب للسيدة الأخرى أنها كانت تبحث عن كلام يطمئنها، وليس العكس. ولذلك بالضبط، فقد سارعت إلى طمأنة نفسها بنفسها، وهي تقول:"الحمدلله أن هذا اللقاح جاء في الوقت المناسب، وفوق ذلك فهو مجاني. يقولون إنه يحمي من كورونا ومن الأمراض الأخرى".
في الجانب الآخر، كان خمسيني، بلباس رياضي، "يشرح" لجاره، الذي لا يعرفه، أشياء تخص مصدر الفيروس، ومآلاته، وكيفية تصنيع اللقاح، متحدثا بلغة الواثق من نفسه. وقال مرة:"الهند فقدت، في يوم واحد، هو يوم أمس، 20 مليونا من الناس". وبينما كانت أسنان جاره المركبة تبديه مبتسما ومقتنعا بما يسمع، واصل هو قائلا:"أنا شخصيا تتبعت الأخبار منذ بداية الحديث عن الفيروس، وأعرف كل شيء"، ثم زاد، وهو يلاحظ بأن جاره لا يعارض:"شيء واحد لم أفهمه، أمي تقطن معي في بيت واحد، وبينما حصلت على اللقاح في مكان قريب، سأحصل عليه أنا في مكان بعيد. بصدق، لم أفهم هذه". ثم أخرج هاتفه المحمول، وضغط على فيديو لمستشفى تدخل إليه قردة من نوافذه، وراح يضحك مع جاره.
"ربعين.. ربعين"..
كان "السكيريتي" قد انتهى للتو من إدخال ستة مرشحين للتلقيح، نسوة ورجال، ليصل إلى الرقم 79. ومع ذلك، فقد بدا لمن بقوا، تحت وابل الشمس، في تلك الأثناء، أو بعضهم على الأقل، بأن أمر الانتظار قد يطول، وربما لن يتسنى لهم الحصول، اليوم بالذات، على اللقاح.
سمع من بعيد صوت غير واضح سوى في كلمته الثانية:"... ربعين ... ربعين". وهنا استشاط أحدهم غضبا، وقال:"ألم أقل لكم إننا لن نحصل على لقاحنا اليوم؟ الأرقام التي بين أيدينا تصل إلى 107 بينما هم ينادون، الآن، على صاحب الرقم 40 بالداخل. ليتني واصلت عملي بالجديدة، ولم أتجشم عناء الطريق بزحامها الكارثي من أجل لا شيء".
وضحك آخر غير بعيد، ثم قال له بهدوء ثلجي:"يا أخي لقد وصل عدد الملقحين إلى 79 وليس 40. وهذا الصوت الذي سمعته لبائع البطاطا خلف الجدار، يصيح "البطاطا ربعين.. البطاطا ربعين". ولا أرى شيئا يمنعك من الصبر حتى تحصل على التلقيح، سيما أنك تتحدث عن رحلة متعبة".
وإذ تأكد الرجل من صحة الكلام، وقد صاح البائع، هذه المرة بصوت واضح وصادح، يعلن ثمن البطاطس، فقد احمر وجهه، ولزم الصمت. وزاد خجلا حينما خرج "السكيريتي" ليسأل بصوته القوي: "أريد أصحاب الأرقام من 80 إلى 93. من يحمل رقما بين هذه الأرقام فليتقدم".
سألني جاري، الذي كان يلبس معطفا شتويا أسود، ويقترب أكثر من اللازم كي يتكلم:"كم عمرك؟". وحين قلت له 52 سنة، ابتسم، وكأنه نجح في اختبار مع نفسه، وقال:"هذا ما توقعته بالضبط. أنا من مواليد سنة 1968؛ أي أنني أكبرك بسنة واحدة فقط"، ثم قفز نحو البعيد، وهو يقول: "كنت في إيطاليا قبل الحجر الصحي، وتيقنت بأن المغرب أجمل ما خلق الله، لولا أن بنياته الصحية يلزمها التطوير". صمت برهة، كي يرى مدى تأثري بكلماته، ثم واصل: "وها هو الدليل. التطبيق الهاتفي ممتاز، والتدبير الإداري ممتاز، ولكن المركز الصحي ليس في المستوى المطلوب. مصيبة، كل شيء يذهب سدى".
مرض مزمن..
"هل تعاني من مرض مزمن؟". كانت الإدارية تسأل من خلف "الكونطوار"، وتتلقى الرد ممن جاء دوره كي يحصل على اللقاح. المكان في الباحة الداخلية ظليل، والكراسي وتيرة، وموضوعة في مواقع متباعدة بعناية واضحة.
وبخلاف ما كان يحدث في الباحة الخارجية، فقد عم الصمت، حتى إنك لتستطيع سماع دقات القلوب. ثم ضج المكان بالصراخ حينما تأكد لسيدتين أنهما لن تحصلا على اللقاح، لأنهما، حسب الإداري المكلف بالتدقيق في الإجراءات، لم تضعا بطاقتيهما في الوقت والمكان المناسبين، كي يسجل الحضور.
علا صوتهما، وصوت الإداري في آن. كان هو يقول إن مسؤوليتهما ثابتة في الخطأ، ويكرر، بصوت يوشك أن يسمعه بائع البطاطس في الخارج:"هل سمعتماني ناديت على أحد باسمه؟ إننا نعتمد على الأرقام وليس على الأسماء. أنتما أخطأتما حين جلستما دون أن تضعا بطاقتيكما رهن إشارتي حتى أسجل اسميكما، وتحصلا على اللقاح. آخر الكلام، من سجلوا هنا سيحصلون على اللقاح، لأن الكمية المتوفرة لدينا اليوم لا يمكنها أن تتجاوز هؤلاء. وإن سمح لكما أحد منهم بأن تأخذوا الحقنة بدلا منه، فلا مشكلة لدي".
وظلت السيدتان على موقفهما لوقت طويل، فيما تدخل "السيكريتي" ليشرح لهما، ثم تدخل ممرض، في الخمسينات من العمر، ليشرح بدوره، دون أن يفلح في ذلك. ثم اقتنعتا، في نهاية المطاف، بأن الأفضل لهما أن تحصلا على دور متقدم في لائحة الغد. مخرج جيد لمعضلة لن تنتهي اللغط بشأنها.
في تلك الأثناء، وكان الوقت يمر سريعا، سمعت همهمات هنا وهناك، بين قائل:"الله يهديه، مالو، كون غير دوزهم وهنانا. ضيع لينا الوقت"، وقائلة:"الله يهديهم هما اللي جاو وجلسو، مقابلين الهضرة، وخلاو السيد كيغلي"، وقائل: "لو كنت مكانه، لتركتهما تنتظران، وفي الأخير أخبرهما بالحقيقة، وانتهى الأمر".
أخيرا.. اللقاح..
الشاب الذي كان مكلفا بإدخال المرشح أو المرشحة للقاح، ظل نشيطا، وكأنه يخرج من مسرحية فكاهية. يبتسم، ثم يمضي بخطوات متسارعة إلى الداخل، بينما الإدارية خلف "الكونطوار" تعيد الأسئلة نفسها كل مرة: "هل تعاني مرضا مزمنا؟ هل تتناول أدوية معينة تخص القلب مثلا؟ هل لديك حساسية ضد البنيسيلين؟"، ثم تضع البطاقة على اللوحة الرخامية، فتسمع لطمتها، ليتلقفها الشاب النشيط، وهكذا.
وقبل العبور من ممر ضيق، يقود نصفه إلى مكان التلقيح، والآخر إلى حيث تشخص الأمراض الأخرى، وتمنح الوصفات الطبية، يفاجئك الشاب النشيط وهو ينبهك إلى دكة صغيرة، ويقول مبتسما أيضا: "عندك تطيح. أغلبية الناس مكيردوش البال لهذي، وكيتعثرو". ثم يمضي، فيما تسمع الإدارية أو الإداري : "العدد ليس كبيرا، بل هو نفسه مثلما كان في الأيام الأخرى. والسيدتان ستحصلان على اللقاح يوم غد. لا مشكلة. كل ما هنالك أن الكمية التي وفرت لنا اليوم أقل من المعتاد، وهذا ما جعلنا نتوقف عند حد معين. ليس هذا ذنبنا".
في الداخل، حيث ممرضتان، إحداهما تقف إلى جانب طاولة طبية وضعت عليها محاليل وقطن وأدوية وحقن، وأشياء أخرى، والأخرى تجلس في كرسي مقابل كرسي المرشح أو المرشحة للتلقيح، يبدأ العمل بتسجيل جديد في سجل ورقي، يتكفل به الشاب النشيط. ثم يبدأ التوجيه:"ضع يدك على صدرك، ولا تضغط عليه".
وفي لمحة عين تكون الممرضة قد مسحت على الساعد بمحلول الكحول، ثم تدخل الحقنة، وتفرغ اللقاح، فتسمعها وهي تقول لك:"على سلامتك. بعد 21 يوما ستأتي إلى هنا، مجددا، كي تحصل على الجرعة الثانية من اللقاح". وتنطلق الأخرى: "في كل الأحوال، ستتوصل برسالة نصية مثل الأولى، تخبرك بالموعد. مع السلامة".
يبتسم الشاب النشيط وهو يمد يده حيث تبدو البطاقة الوطنية لامعة على شعاع خفيف يدخل من نافذة في الخلف. ويخطو متقدما كي تتبعه، بينما تجيب الممرضة على سؤال: "أي اللقاحين هذا؟" بالقول: "سينوفارم". وينتهي كل شيء عند باب المركز الصحي، حيث تتجاذب بعض النسوة، ومثلهن بعض الرجال، أطراف الحديث عن أحاسيسهن وأحاسيسهم عقب التلقيح، وإن كانت الحرارة قد ارتفعت، وما يتعين فعله لاحقا. وتسمع، عابرا بينهم، أحدهم يجيب، وكأنه بروفيسور مختص في اللقاحات:"سيحتاج الأمر إلى بعض المبردات لتجاوز الألم، وتخفيض الحرارة". ويقول "السيكريتي":"أسيدي سيرو ترتاحو.. وخليونا نرتاحو".
ويبدأ الحديث، هذه المرة، عن موعد الحقنة الثانية. وتسمع أحدهم يقول:"لم أكن أظن أن كل شيء بهذه البساطة. لطالما حملت هم هذه اللحظة. الآن أنا مرتاح جدا. وسأحضر الموعد المقبل بنشاط أكبر".
كنت أبعث صورتي عند التلقيح إلى بعض الأصدقاء، وأنا في الطريق إلى وسط المدينة. أغلبهم قال لي: "بصحتك". لم أعرف لم بدت لي "بصحتك" لا تتناسب مع التلقيح. وقلت لنفسي:"سنحتاج إلى عبارة غير هاته التي تتماشى مع الخروج من الحمام". وضحكت.
مقالات ذات صلة
مجتمع
مجتمع
مجتمع