مجتمع
ماسح الأحذية.. حر بنظرة "عبد"
19/11/2020 - 11:31
مهدي حبشيمطأطئاً يكاد لا يرفع ذلك "السِيرور" رأسه قط، فخبزه هناك في الأسفل. يكره الليالي الماطرة، ليس لجفافٍ في مشاعره أو خلل في رومانسيته، بل لأن الوحل الذي تخلفه على الأرض هو التهديد الأكبر لـ"كنزه"... فكل حذاء ملطخ بالماء والوحل بالنسبة له جنديٌ خان القضية.
هو خصم لبعض شركات الأحذية الرياضية، ليس لأنه ينازعها على سوق أو ينافسها في رقم المعاملات، بل لأن أحذيتها المنسوجة من الثوب لا توفر له شغلاً. يحن إلى الزمن الجميل حين كان نمط اللباس الكلاسيكي سِمة الأناقة، وكان الجلد طاغياً على الأحذية، فوحده الجلد قابل للتلميع...
ألوانه المفضلة؟ الأسود والبني، فهي التي تعشق فرشاته ومادته الملمِّعة وتتوق إليهما.. وحينَ تقع أنظاره على حذاء بتلك الألوان، يقرع على صندوقه لافتاً الانتباه، ويوجه لصاحبه نظرات تتراوح بين التفاوض والاستجداء، وكله أمل في ألا يهز رأسه يميناً وشمالاً رافضاً الخِدمة، أو يتجاهله كأنه هبة ريح...
"س.م" أحد هؤلاء، ألفته "ساحة السراغنة" في قلب مدينة الدار البيضاء؛ رجل طعن في السن سبعة وستين عاماً، قضى 40 منها مُحاطاً بالمواد الملمعة والأحذية، بيد أن ذلك لم يشفع له كي ينتعل بنفسه حذاءً لمَّاعاً.
بالنسبة لهذا الرجل يوجد صنفان من الزبائن؛ "الزبون الصديق" والزبون غير ذلك... فالزبون الصديق هو الذي يجنب ماسح الأحذية مذلة التصرف كعبد من القرون الوسطى في حضرة سيّده، والانحناء على نعاله كما لو كان بصدد تقبيل قدميه. "أحب كثيراً أولئك الذين يكلفون أنفسهم عناء انتزاع أحذيتهم إلى حين فراغنا من تلميعها"، يقول "س.م" بابتسامة تقدير.
أما الزبون غير الصديق، فذلك الذي لا يتورع من التفاوض حول سعر الخدمة. "نحن في الواقع ليست لنا تعريفة مضبوطة، ونقبل ما نُعطى بقناعة"، لكنه يحكي بنبرة سخرية عن زبون أمده بدرهم واحد ثمناً لخدمته. "حين نظرت في وجهه بعينين تفضحان امتعاضي، أخذ يُجادلني في جودة عملي وسعر مُعدّاتي الرخيصة، والذي لا يستحق في رأيه أكثر من درهم".
سلوك محرج، فكيف لـ"السيرور" أن يُفسر، لمن مات حس التعاطف الإنساني في قلبه، أنّه ينزل للشارع كل صباحٍ مُعولاً على كرم الناس لا على حرفته!
"ماكلة كرشي" هي منتهى ما توفره هذه الحرفة لصاحبها يقول س.م، "أجني 40 أو 50 درهماً في اليوم تكفيني لسد جوعي ليس إلا، أما بقية تكاليف الحياة فنتركها على الله...".
ليس كل الزبائن يهمهم أن يكونوا أصدقاء "السيرور" في ما يبدو، فسلوك بعضهم يوحي بأنه لا يُلمِّعُ حذائه إلا بحثاً عن إرضاء حاجته للإحساس بالتفوق، ليطرح سؤالٌ نفسه بقوة: هل يبيع "السيرور" في سوق الشغل قوة عمله، أم قطعة من كرامته؟
مقالات ذات صلة
مجتمع
مجتمع