مجتمع
مقبرة الغفران.. موتى "يطلبون النجدة"
12/01/2021 - 10:34
يونس الخراشيالمشهد الأول: يدخلون "الغفران" أفواجا
ما أن تبدأ الصعود إلى قنطرة "السالمية"، باتجاه مقبرة الغفران، حتى تفاجئك حشود الناس، مشاة وركبانا، في مشهد نادر الحدوث بهذا المكان. أما بعد الوصول إلى مكان متقدم، وأكثر علوا، فإن المشهد يصبح أكثر وضوحا، مع أعداد أكبر للسيارات، والحشود، وسط طريق موحلة، يبرز منها بعض الأسفلت.
الذين يتجهون نحو المقبرة لم يكونوا ليفوتوا أي كلمة قالها أحد الذين يغادرون إلى حال سبيلهم. وحين يُسمع أحدهم يقول: "الحمدلله، الأمور ليست بالسوء الذي شاهدناه في الفيسبوك"، تشاهد مسحة من الطمأنينة تعلو وجه أحدهم يمضي ليطمئن على قبر أب أو أم أو قريب. فالخبر الذي شاع بين الناس، منذ أيام، يفيد بأن ماء الأمطار غمر القبور، وهوى بتربة الكثير منها، فتكسرت البناءات، وربما يكون وضع الجثامين والرفاث، هنا وهناك، سيئا.
"الأخ الكريم"، يقول أحد العائدين من المقبرة لرجل يخوض بسيارته وسط صف طويل من المركبات، تكاد لا تمضي، بفعل الزحام: "نصيحة، إن كنت تريد زيارة القبور، فاركن سيارتك هنا، وتقدم مشيا. فلن تجد مكانا بالقرب من المقبرة". وبنظرة نحو الأمام، يبرز موكب طويل جدا من العربات، يتحرك ببطء شديد وسط حشد من الذاهبين إلى المقبرة والعائدين منها.
أشياء أخرى كانت تبرز أيضا عند المغادرين؛ دموع مسفوحة على الخدود، وحمرة في العيون، وتعب يغلب على الوجوه، ووحل يملأ الأحذية، وطرفا من السراويل والجلابيب. ففي الطريق المؤدية إلى مقبرة الغفران حفر كثيرة غمرها الماء، وعلى جانبيها وحل كثير. قال أحدهم، وهو يفكر في طريقة يمسح بها حذاءه: "كيف سيدفن الموتى الجدد؟"، حدق في الهواء، ثم جاوب نفسه:"لست أدري. لست أدري".
المشهد الثاني: الطريق إلى الموتى
جرت العادة أن توصلك عدة معابر إلى مقبرة الغفران، من طرق محمد السادس و10 مارس والجولان. وجرت العادة أيضا أن تكون تلك المعابر سالكة، مهما شغلها الناس في المناسبات المشهودة، مثل الجمع، وبعض الأعياد، وفي عاشوراء. غير أنها بدت، هذه المرة، مأهولة بالحشود، حتى إن رجال الدرك أنشأوا حاجزا لهم عند المنعرج الأخير، المؤدي إلى المقبرة. فلم يسُمح، عنده، بالعبور سوى للمشاة.
كانت أعداد الآتين إلى المقبرة والمغادرين سيَّالة. وقال رجل وقف ليشتغل حارس سيارات طارئ: "لم أشهد مثل هذا الذي وقع منذ يومين. أي نعم كنت أرى أفواجا تأتي في بعض المناسبات، غير أنني لم أشهد مثل هذه الحشود يوما. إنها سابقة"، ثم زاد وهو يستعد لتحديد موقع سيارة: "ما وقع لبعض القبور عادي بالقياس إلى حجم الأمطار، ثم إنها تربة فلاحية. ولكن من حق الناس أن يطمئنوا على قبور أهاليهم، من حقهم تماما".
وعلى طول الطريق إلى المقبرة نشطت مهن كثيرة. فهناك أكثر من حارس للسيارات، وأكثر من حارس للدراجات النارية، وأكثر من بائع وبائعة لقنينات "ماء الزهر"، وأكثر من متسول ومتسولة جاؤوا وجئن لاستثمار المناسبة التي قد لا تتكرر إلا نادرا جدا. وسمع أحدهم وهو يقول بصوت عال: "الله يجعلها رحمة للوالدين. خذوا من عندي ماء الزهر، خذوا من عندي رحمة للوالدين".
ولكن الثمن كان لاسعا. وشوهدت نسوة يتقدمن في اتجاه المقبرة، وهن يشتكين من المقابل الذي طلبه الرجل لبيع قنينة "ماء الزهر". ثم شوهدن وقد عثرن على المطلوب غير بعيد. فقد كان كثيرون، على طول الطريق، يبيعون "ماء الزهر" الذي يستعمله الزوار ليعطروا به القبور. ويستعمل الماء نفسه حتى أثناء الدفن. فهو طيب جدا.
المشهد الثالث: حركية لترميم القبور
ما أن تدخل المقبرة، خلف السور الذي يسيجها، والخضرة التي تحيطها من كل جانب، ضاجة بما فعله المطر بالتراب، حتى تسرق نظرك بركة كبيرة للغاية، تتوسط المكان بين طريقين. هي عنوان عن الفيضان الذي نتج عن الأمطار الأخيرة، وسؤال بلا جواب عن الوضع الماثل أمام العيون.
من هناك بالضبط تلاحظ أن التعابير على الوجوه متغيرة تماما. فمن يتجهون إلى الخارج يرحلون في صمت يلفه الحزن، ومن يتجهون إلى الداخل يدلفون في صمت تلفه الحيرة. ذلك أن المشهد صادم، ويصعب معه تخيل ما يخبئه، ويصعب معه حتى سؤال الذين انتهوا، ويغادرون.
على اليمين والشمال، حيث الجانب الجديد من المقبرة، وقد بدت بعض الشواهد بتواريخ حديثة، نشط الزوار في ترميم القبور المكسورة، وتلك التي هوى التراب من تحتها. فكثيرون جاؤوا بأدوات البناء الأولية، وراحوا يخلطون التراب بالإسمنت، ويفرغون الماء، ثم يعيدون ترتيب الحجارة، مؤملين ألا تتساقط الأمطار، حتى يجف بناؤهم.
"هؤلاء الناس يهدرون جهدهم"، يقول أحد الحراس الكثر لرجل كان يستعيد دراجته النارية، ثم يضيف:"لن يستقيم أي ترميم مهما كان دون أن تعود التربة إلى طبيعتها. الأمطار التي سقطت على هذه التربة تحتاج أياما كي تجف. ولا يبدو أنها ستجف قريبا، فالسماء تخبرنا بأن المزيد من الأمطار ستهطل. أنَّى لها أن تجف قريبا؟". ويتوقف عن الكلام بلا أي ابتسامة، أو ضحكة. فالمشهد لا يسمح سوى بالحزن. لا شيء غير الحزن.
وفي الجانب الآخر من البركة بعض الأطفال يشتغلون بجمع الماء، وبعض الوحل، فيما شباب يعرضون أنفسهم ليرمموا قبرا أو يساعدوا في شيء ما، مقابل دريهمات، أو مقابل صدقات.
المشهد الرابع: موتى ينتظرون دفنهم
بينما كان الزوار، الذين جاءوا ليطمئنوا على قبور ذويهم، بين مستريح وقد اتضح له أن الأمور على خير، ومفجوع بصورة صادمة لقبر قريب، ومشتغل بالترميم، كان كثيرون يشتعلون غضبا بفعل الزحام الذي كان يزداد مع مرور الوقت، فيمنع تحرك العربات، وسيما منها تلك التي تحمل موتى إلى المقبرة، فلا تتقدم إلا ببطء شديد.
ووسط ذلك كله، مرت سيارة لنقل الموتى بسرعة كبيرة وسط الحشود، في مشهد غير مسبوق، جلب سخط البعض، فيما قال بعضهم إنه لم يكن أمام السائق من بد كي يصل بالميت إلى مكان الدفن، فـ"إكرام الميت دفنه". مع أن المكان المنشود لم يكن هو الآخر مثاليا. فالجهة المخصصة لدفن الموتى الجدد كانت في حالة سيئة للغاية، بحيث صارت عبارة عن وحل يصعب حفره، مما اضطر المعنيين إلى استعمال الحصى الأصفر عساه يسعف في تشكيل أرضية أكثر صلابة.
كان المشهد في تلك الجهة صاخبا أكثر. فيه بكاء ونحيب. وفيه حركية لسيارات نقل الموتى. وفيه عجز عن العبور نحو القبور، التي طفا فوها الماء، أو غطاها الوحل. وفيه مغادرون مشدوهون لهول المشهد. وفيه أناس شغلوا بمسح أحذيتهم التي لطخها الوحل. وفيه أيضا عمال يشتغلون بجهد وصمت، ويؤكدون أن الموتى لم يلحقهم أي أذى، بعكس ما قال البعض.
قال أحدهم، وبدا كلامه منطقيا، ويوحي بأنه من أبناء المنطقة: "هذا المكان من المقبرة، والذي تضرر إلى حد ما بالأمطار الفيضانية، دون أن يلحق أي أذى بالجثامين، يوجد في منحدر يفضي إلى سهل صغير ثم مرتفع. وهذا ما جعل المياه تتجمع هنا، وتكون وحلا كثيرا. بعض القبور، وقد هوت المياه بالتربة التي بني فوقها، تكسرت. ولكن على العموم، الأمور ليست سيئة".
المشهد الخامس: الأرواح تتواصل
بعض القبور التي أنشئت حديثا، كانت تضج بطلب النجدة. ومن كانوا يمرون بجانبها لا يفتأون يتوقفون، وينظرون إليها بحسرة. وتسمع أحدهم يقول: "ليت أصحاب هذه القبور يأتون بسرعة ليبنوا فوقها، بما يقيها من الوحل، والمزيد من المياه". ثم يستمر المارون في طريقهم، ويواصل من يشتغلون بالترميم، ويغادر المغادرون.
ووسط الحشد الهائل، كان الصخب مستمرا. فأغلب من جاؤوا إلى المقبرة كانوا يتواصلون مع أحبة لهم من مكان آخر بالمغرب، أو من خارجه، بتقنية "واتساب"، حتى يُشْهِدوهم، بالمباشر، أنهم تحركوا، وأن الأمور على أحسن ما يرام. وهكذا كانت الأصوات تعلو من هنا وهناك، ومعها يعلو البكاء، فتمسح دمعة في مقبرة الغفران، بالدار البيضاء، وتمسح أخرى بمكان آخر، وقد تمسح غيرها بأوربا أو أمريكا أو كندا، أو حتى أستراليا.
ترى أحدهم وهو يوجه هاتفه إلى قبر معين، أو إلى جانب من المقبرة، في مشهد بانورامي، أو يصور مقطعا بعينه، فيتبعه بالوصف، أو بتعليق ما، لمن يوجد في الطرف الآخر من الخط، كي يطمئنه، أو يواسيه، أو يوضح له شيئا يحتاج إلى توضيح.
وفي الخارج، حيث كان رجال الدرك منهمكون في ترتيب حركة السير العصيبة، في يوم مشهود، كنت تشاهد بعض النسوة المتقدمات في العمر يجلسن هنا وهناك ليلتقطوا أنفاسهن، ويستعيدوا ما رأوا بالمقبرة. أما بعيدا، حيث الطريق إلى السالمية، والقنطرة التي تعلو الطريق السيار، فكان لا بد من التفاتة إلى الوراء، لإلقاء نظرة أخرى، غير أخيرة، على "الغفران"، حيث يبدو الحشد هو نفسه، بعد العصر. وكأنه لا يتحرك، ولا ينتهي.
المشهد السادس.. المسؤول عن المقبرة يتحدث
أمام هول المشهد، الذي تضمن حشودا سيالة تهرع إلى مقبرة الغفران لتفقد قبور ذويها، في يوم بارد، ووسط الوحل، كان لا بد من اتصال بمسؤول يشرح ما وقع، ويوضح ما يمكن توضيحه. وفي هذا السياق قال عزيز حسن، رئيس مجموعة جماعة التعاون الاجتماعي، المسؤولة عن إدارة وتدبير مقبرة الغفران، لـ"SNRTnews"، إن "السبب في ما وقع هو التهويل، ليس إلا".
عزيز حسن، الذي تحدث بهدوء، أوضح أن الجانب الجديد من المقبرة هو الذي تضرر بعض الشيء بفعل الكمية الكبيرة من الأمطار، مشددا على أن الجثامين لم يلحقها أي أذى، وزاد شارحا:"كل ما في الأمر أن بعض الأتربة هوت بفعل الأمطار المتساقطة، غير ذلك مجرد تهويل، جعل الناس تتداعى إلى المقبرة، وهذا أمر طبيعي".
المسؤول الأول أوضح لنا أيضا بأن مقبرة الغفران، التي تقع أنشئت سنة 1989، على قطعة أرضية تابعة لأملاك الدولة، تمتد على مساحة 135 هكتارا، ضمن تراب إقليم مديونة – المجاطية أولاد الطيب، "تستقبل يوميا ما بين 30 إلى 60 جثمانا، وتضم حاليا ما يزيد على 35 ألف ميت"، مشيرا إلى أن عملية الدفن مستمرة رغم كل شيء، وتسير كما جرت به العادة".
وعلى حافة السور، حيث المدفن الجديد، كانت آليات صاخبة تتحرك، محملة بالحصى وبعض الألواح الإسمنتية، التي عادة ما توضع على اللحد، كي تحمي الجثمان من أي طارئ، كالذي شهدته المقبرة إثر الفيضان. ووسط المكان بركة صغيرة لم تمنع زوارا من تحديها، بأرجل غاصت في الوحل، للتأكد من سلامة القبور، أو وضع كميات من الحصى الأصفر، عسى أن تفيد في التثبيت.
المشهد الأخير.. الموتى لا يرجعون
وحدهم الأموات لم يكونوا يسألون عن الوضع في تلك الأثناء. ووحدهم كانوا ينتظرون دون احتجاج كي يأتي دورهم في الدفن. ووحدهم لم يكونوا ليرجعوا حين يرجع الأحياء أدراجهم. أما الباقون، فكانوا يصخبون، ويحتجون، ويبكون، ثم يغادرون المقبرة، ليحكوا ما شاهدوه لغيرهم، ويبكون.
"سأرجع وسط الأسبوع"، سمع أحدهم يقول لآخر في الهاتف، وزاد:"كي يطمئن الجميع، لابد من عودة إلى هنا. القبر يحتاج إلى بناء متين. لا بد أن أعود". ومرت سيارة لنقل الموتى كتب عليها "كل نفس ذائقة الموت.. نقل أموات المسلمين". علا صوت: "إنا لله وإنا إليه راجعون"...
مقالات ذات صلة
مجتمع
مجتمع
مجتمع