عالم
ربيع العنصرية
30/10/2023 - 16:53
جمال الخنوسي
ماذا يحدث في وسائل الإعلام الفرنسية أو في أغلبها؟ لقد أصبحت الألسن أكثر مرونة والتعابير العنصرية أكثر تداولا دون خجل أو امتعاض. وهنا لا أتحدث عن فترة ما بعد 7 أكتوبر فحسب، بل إن هذا التحول سابق للتاريخ المذكور بكثير.
أظهرت نسب المشاهدة في فرنسا، التي تنشرها مؤسسة ميدياميتري، التقدم الكبير الذي شهدته القناة الإخبارية سي نيوز، حيث حققت المحطة المثيرة للجدل 2,5 في المائة من حصة المشاهدة عموما.
هذا الرقم يعتبر الأعلى في تاريخ القناة منذ بدايتها العسيرة في 2017 على أنقاض سابقتها إي تيلي، عندما اقتناها رجل الأعمال ذو الأفكار المحافظة، فانسون بولوري، في 2016، الأمر الذي فجر موجة احتجاجات واضرابات، حينها، جعلت الرجل المتشدد ينهي حياة إي تيلي ويطلق قناة سي نيوز التي تحتضن أفكار اليمين المتطرف وتفتح ذراعيها للمتشددين والعنصريين من إريك زمور إلى باسكال برو. الأول أدانته العدالة الفرنسية بالتحريض على التمييز العنصري في 2011، وبالتحريض على الكراهية تجاه المسلمين في 2018. فيما تجرأ الثاني، في 29 شتنبر الماضي، على طرح سؤال على أحد ضيوفه حول علاقة انتشار بق الفراش بالهجرة في فرنسا...
جميعنا يذكر أيضا التغطية التي قدمتها هذه القناة لفاجعة زلزال الحوز، والتعامل غير المهني مع كارثة إنسانية، على غرار أغلب وسائل الاعلام الفرنسية التي ابانت عن وجهها القبيح وتساءلت بعجرفة شديدة: هل يستطيع المغرب تجاوز محنة الزلزال دون المساعدة الفرنسية؟ القناة التي حققت نسب مشاهدة قياسية تابعة لمجموعة كانال بلوس، التابعة بدورها لمجموعة فيفاندي، التي يملكها الملياردير فانسون بلوري، والذي أعاد نفس السيناريو مع جريدة لوجورنال دي ديمونش، التي اقتناها مؤخرا ووضع على رأسها رئيس تحرير معروف بانتمائه لليمين المتطرف، انتقل اليها قادما من مجلة عنصرية تدعى فالور اكتويال. تفجرت الاحتجاجات والاضرابات كالعادة، وصمم بولوري على تحديد خط تحريري جديد للجريدة، فاضطر الصحافيون للرحيل الى وجهات أخرى، فيما أخذ بزمام الأمور رئيس التحرير الجديد، جوفروي لوجون، الذي تستضيفه قناة سي نيوز في كل مناسبة وبدونها.
هو إذن ربيع عنصري يزهر في بلاد حقوق الإنسان حيث تطلق الألسن العنان لشطحاتها دون حسيب أو رقيب، فيما يعتبره البعض تعبيرا بصوت مرتفع عما تفكر فيه الأغلبية بصوت منخفض. ويرى فيه آخرون صوت: La France décontracté.
لكن ما السر وراء هذا المد العنصري في المجال السمعي البصري الفرنسي؟
يسعى اليمين المتطرف الفرنسي لاستنساخ التجربة الأمريكية، حيث يريد خلق قطبية متصارعة، سيكون فيها فانسون بولوري هو روبيرت ميردوخ، وباسكال برو هو توكر كارلسون، وسي نيوز بمثابة فوكس نيوز. ليس هذا فحسب، بل إن بولوري واليمين المتطرف استنسخ نظرية أمريكية تدعى نافذة أفرتون تحمل اسم صاحبها جوزيف أوفرتون، حيث تحتوي هذه النافذة المتخيلة الأفكار السياسية والنظريات المجتمعية المقبولة من طرف الرأي العام، وتتولى بعض وسائل الإعلام وبعض الشخصيات المثيرة للجدل أو ذات الأفواه الكبيرة (les grandes gueules) توسيع هذه النافذة الوهمية من خلال طرح آراء وأفكار غاية في التشدد، تجعل من رأي السياسيين المتطرفين، عبر مراحل، موقفا معتدلا ومقبولا. فالسلطة الحقيقية ليست في يد السياسيين، بل لدى المفكرين والصحافيين الذين يهيمنون على المجال السمعي البصري. فإيريك زمور تحول من متدخل في برنامج ليلي على القناة العمومية فرانس 2، إلى فاعل حقيقي ومرشح للرئاسيات الفرنسية. وبالرغم من الهزيمة المدوية لصاحب الأفكار العنصرية الراديكالية، وحصوله على نسبة تصويت هزيلة، إلا أنه جعل من "عنصرية" الأمس، وصديقة النازيين، مارين لوبان، عاشقة للقطط وحاملة لأفكار معتدلة ومستساغة حول الهجرة والإسلام.
لأجل كل هذا، فإن نسب المشاهدة المعلن عنها ليست أمرا هينا بالمرة، بل مؤشرا على أن فرنسا ليست أمام أوهام "غزو حضاري" تبرره نظرية "الاستبدال الكبير"، بل هي اليوم أمام معركة ثقافية حقيقية تسائل تصورها للإنسان والمجتمع والعالم.

مقالات ذات صلة
عالم
فن و ثقافة
عالم
سياسة