سياسة
الاستقلال.. فرقة الموت للبقال
18/11/2020 - 15:11
حليمة عامرفي تلك الظروف الاستثنائية وخلال هذه الفترة، التي يرويها بتفصيل محمد الحيب الفرقاني في كتابه "الثورة الخامسة- صفحات من تاريخ المقاومة وجيش التحرير"، برزت مبادرة محمد البقال المراكشي، إذ فكر بمفرده في تأسيس تنظيم فدائي يؤدي فيه واجبه، ووجد نفس التفكير والاستعداد لدى جملة من أصدقاء مخلصين من حوله، فمضى في عمله التنظيمي بشكل معزول، لا علاقة له بأحد في مراكش ولا خارجها.
من تاجر صغير إلى شهيد للوطن
هو محمد البقال بن أحمد بن محمد ورقية بنت ابراهيم، ولد حوالي سنة 1927 بالقصبة درب أحربيل رقم 91 بمراكش، وفي الخامسة من عمره مات والده، فنشأ يتيما، وتعلم في ظروف اليتم الاعتماد على النفس.
التحق الطفل محمد بالمسيد، وفيه سيقضي بين جدرانه شطرا من طفولته، وسيتعلم القراءة والكتابة، على يد الطالب المحرر علي الشياظمي، وسيحفظ عليه قسطا من القرآن الكريم.
كبر محمد في عائلة فقيرة متواضعة تسكن أحد الأحياء الأشد فقرا بمراكش، وفيه سيتعلم حياة الشظف والفقر وضيق ذات اليد.
لما بلغ العشرين من عمره، وليس في العائلة من يعوله ويعول والدته، أخذ محمد البقال يتعاطى كأبيه التجارة؛ أي تجارة من لا يملك عقارا ولا رأسمالا.
وبقدرة قادر، لعبت هذه الظروف التي عاشها محمد البقال عاملا نشيطا في تهيئه للمهمة التي خلق لها، والتي دفع روحه الطاهرة ثمنا لها، ولذلك كان منذ شبابه المبكر مستقيما طيب الأخلاق شديد التمسك بدينه وعقيدته.
بداية الحكاية
انخرط محمد البقال مبكرا في الحركة الوطنية، وانتظم في صفوف حزب الاستقلال، ولم يلبث أن تطور من عضو إلى مسير جماعة، ثم إلى مسؤول حزبي عن نشاط تنظيمات الحركة بحي القصبة.
وكان نشاطه السياسي الحاد والمتواصل معروفا لدى الإدارة الفرنسية، وكان تحت الملاحظة المستمرة من طرف أجهزة مخابراتها السياسية، واعتقل بالفعل عدة مرات، مرة منها حكم بثلاثة أشهر سجنا، ومرات أخرى دون ذلك.
كان محمد البقال نظيفا مستقيم الأخلاق صادق النية عميق الإيمان بدينه وفكرته التي اختارها. لا شبهة إطلاقا في حسن سيرته، معروفا بين أصدقائه وإخوانه بالصدق والإخلاص، وشديد التمسك والصلابة في دينه، فكان إذا انخرط أحد على يده في الحركة الوطنية وأخذ منه اليمين، يمين الإخلاص للوطن، يشترط عليه أن يصلي وأن يلزم صلواته كعنوان على هذا الإخلاص.
أول تحرك فدائي بمراكش
عرف محمد البقال المراكشي بكونه كان على رأس محركي ومنظمي مظاهرة المشور الشهيرة التي تمت بمشاركة عدة آلاف من المتظاهرين من مراكش ومن الضواحي يوم السبت 15 غشت 1953، وكان هو الذي، حمل الراية على رأس المتظاهرين، ثم ألقى فيهم من فوق حائط "معيدة" خطابا حماسيا يؤلب فيه المتظاهرين ضد المؤامرة الاستعمارية لتنصيب ابن عرفة، "السلطان الدمية" وللعمل على عرقلة نقله إلى القصر الملكي بالقصبة، وانتهت المظاهرة باصطدام عنيف مع قوات الشرطة الفرنسية وفرق القوات الاحتياطية وأعوان الباشا التهامي الكلاوي.
ستعلم السلطات الفرنسية بالدور التحريضي الرئيسي لمحمد البقال في هذه المظاهرة فقد جد البحث عنه لاعتقاله مباشرة بعد المظاهرة بعدما اعتقل الكثير من أصدقائه ومرافقيه.
وكان البقال قد تسلل من المشور في الوقت المناسب بعد تقلص المظاهرة في كثير من الحيطة، ولاذ بالاختفاء، فاتجه إلى دار زميلته زينب علوان، بدار الشاف المهدي، بعد أن قضى ليلته الأولى مساء يوم المظاهرة في سطح صهريج، وكان جريحا في منطقة بسبب اصطدام المظاهرة، فتولت زينب علاجه وتضميده. وأقام عندها يوما وليلة، قبل أن ينتقل إلى منزل صديقه رحال بن العباس بعرصة ماجوريل خارج باب دكالة.
اعتقال أفراد عائلة البقال
في 16غشت، ستداهم الشرطة وأعوان الكلاوي دار عائلة البقال وستعتقل كل أفراد الأسرة وستفتش الدار تفتيشا دقيقا وستحجز كل ما فيها من أوراق ووثائق وكتب ومكتوبات، حيث سيتم إغلاق الدار وتسميرها وتشميعها، وسينصب على بابها حراسة دائمة، وسيتم اقتياد جميع المعتقلين إلى دار الكلاوي، وسيتم اقتياد النساء إلى دار العريفة بحيي سباتين، درب السويقة.
في هتلك الأثناء، كان أحمد البقال أخو محمد البقال، مختفيا بمنزل زينب علوان، وبعد علمه بما أصاب عائلته، لم يبق أمامه سوى أن يخرج ويبحث له عن مخبأ يأوي إليه، فخرج من دار زينب متنكرا في جبتها، لكن سيكشف أمره، وبعد أيام سيقدم إلى المحكمة باعتباره مشاركا في المظاهرة، وسيحكم بسنتين سجنا.
اعتقلت عائلة البقال ولم يبق منها أحد خارج السجن كبارا وأطفالا، بمن فيهم صغيرة العائلة، فاطمة البقالـ التي اعتقلت وعمرها 14 سنة وبقيت مع العائلة سنة كاملة، ولم يبق خارج السجن منها إلا الشهيد محمد البقال.
مناشير وحرائق ومحاولة نسف القطار
سيتخذ محمد البقال اسما حركيا هو "المحجوب بن ناصر" ويدعو تنظيمه باسم "منظمة النصر المبين".
كانت فرقة محمد البقال تطمح إلى إنجاز أعمال فدائية كبيرة تزعزع أركان الاستعمار والإقطاع بالمنطقة وخارجها، حيث كان يخطط إلى تحطيم دار الكهرباء بمراكش، وتحطيم سد وادي نفيس، وتحطيم محطة الوقود قرب المطار، لكن من سوء الحظ ستنكشف خططه سريعا وسيتم اعتقاله ويوضع حد لأنشطته كلها.
استشهاد من أجل الوطن
شارك مع جملة من إخوانه في التخطيط لمظاهرة المشور يوم 15 غشت 1953 والدعوة لها في مراكش وفي الضواحي وأخذ الترتيبات الضرورية لنجاعتها، ثم قاد بنفسه هذه المظاهرة، وحمل بنفسه علم قيادتها، ثم خطب في المتظاهرين وسط المشور ولكنه أحسن التسلل والاختباء مباشرة بعد المظاهرة، وبات ليلته الأولى على سطح صهريج كناوة، ثم أخد ينتقل في مخابئ متعددة، والشرطة تبحث عنه، إلى أن تم اكتشاف التنظيم واعتقاله يوم 29 دجنبر 1953، بعد أن عمر التنظيم السري الذي أسسه أربعة أشهر وثمانية أيام.
اعتقل البقال ووضع هو وباقي إخوانه أمام أنظار المحكمة العسكرية وسيحكم عليه وعلى ثمانية آخرين من إخوانه بالإعدام، وفي 22 أبريل 1954 سينفذ الحكم عليه وعلى اثنين من رفاقه هما العربي باعدي وعلي بن الطاهر، وذلك بسجن العاذر قرب الجديدة حيث ووري جثمانهما في مقبرة الشهداء المعروفة هناك.
مقالات ذات صلة
سياسة
سياسة