سياسة
المسيرة الخضراء.. معنينو يكشف كواليس الملحمة
06/11/2020 - 21:39
SNRTnewsبداية ماذا وقع في محكمة العدل الدولية؟
في الأول، اقترح الحسن الثاني أن تجيب محكمة العدل الدولية على سؤال أساسي، وهو هل هناك خلاف بين إسبانيا والمغرب حول منطقة الصحراء؟ والتي كانت تسمى "الصحراء الغربية".
قالت المحكمة: "يوجد خلاف بين المغرب وإسبانيا"، وجواب المحكمة هذا أسقط الأطروحة التي كانت تدافع عنها إسبانيا "لا علاقة لها بالمغرب، ولا مشاكل مع المغرب، ولا خلاف بينها وبين المغرب"، في تلك الفترة اقترح الحسن الثاني "النهج السلمي" في التعامل مع هذا الملف.
وذهب الحسن الثاني، إلى طرح سؤالين جديدين على محكمة العدل الدولية وهما، عندما دخلت إسبانيا إلى الصحراء: هل وجدتها أرضا خلاء كما تدعي؟ وأما السؤال الثاني الذي طرحه قائد المسيرة الخضراء فهو: إذا لم تكن قد وجدتها أرضا خلاء، فما هي العلاقة بين المغرب وبين الصحراء؟
وبطبيعة الحال قام المغرب بالدفاع عن نفسه، لعدة أسابيع أمام المحكمة، بالدفوعات الشكلية والتاريخية، والقانونية..إلخ.
وقامت إسبانيا بنفس الشيء وقالت "إننا وجدنا الصحراء أرضا خلاء، ولا علاقة للمغرب مع الصحراء"، وكان إلى جانبها وفد دفاعي آخر ضد المغرب وهو الجزائر.
ماذا جرى بعد ذلك؟
قيل في ذلك الوقت بأن الجواب سيكون إما في شهر أكتوبر أو شهر نونبر؛ أي بعد حوالي 6 أو 7 أشهر من المداولات، والعمل القانوني في المحكمة، ويوم 16 أكتوبر صدر الرأي الاستشاري للمحكمة.
ما معنى هذا الرأي؟
معناه أن المحكمة أجابت على السؤالين، بالنسبة للسؤال الأول "هل وجدت إسبانيا الصحراء أرضا خلاء؟"، قالت المحكمة: "لا، إسبانيا لم تجد الأرض خلاء"، وهذا معناه أن الجانب القانوني المنبثق عن الفكر الاستعماري الاسباني، أسقطته المحكمة.
وبخصوص السؤال الثاني، حول العلاقة بين المغرب والقبائل، قالت المحكمة: "نعم، هناك علاقة قانونية، وهناك علاقة بيعة".
إذن بعد هذا الحكم الذي صدر يوم 16 أكتوبر 1975، وفي نفس الليلة، ألقى الملك الحسن الثاني خطابه معلنا عن تنظيم المسيرة الخضراء. وهذا يشكل رغبة للمغرب في شق مسار سلمي لإنهاء المشكلة.
ما هي الخيارات التي كانت مطروحة على طاولة الملك الراحل؟
بعد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، طرحت 3 خيارات؛ أولها خيار الأمم المتحدة، ثم الخيار العسكري، ومعناه أن يدخل المغرب بالقوة إلى الصحراء، ولكن دبلوماسيا "لم نكن لنعالج المشكل بطريقة واضحة ومستمرة"، لذلك استغل الملك هذه الفرص التي كانت المحكمة تنعقد فيها، ليبعث عشرات الوفود، على رأسها مستشارون ووزراء وقيادات سياسية ونقابية، إلى أكثر من 110 دولة في العالم لإخبارها، ولطلب تفهمها وعدم تسرعها في الحكم على هذا الملف.
أما من الناحية العسكرية، فلم نكن على استعداد لمواجهة إسبانيا من جهة، والجزائر من جهة ثانية، هذه الأخيرة في ذاك الوقت وضعت جيشا قويا قبالة وجدة وفي تندوف؛ أي أن الحدود ملأتها الجزائر بآلاف الجنود والأسلحة والدبابات، إذن كان تهديدها من الشرق، واسبانيا من الشمال والجنوب، ولم يكن في استطاعة المغرب أن يدخل في حرب مع دولتين دفعة واحدة.
معلوم أن كل هذه الاحداث أسهمت بشكل مباشر في خطاب الملك واعلانه عن تنظيم المسيرة الخضراء. كيف كانت ردود الفعل بعد هذه الدعوة؟
الجميع اعتبر أن هذا الخطاب يدخل في إطار المناورة السياسية، وأن المغرب لم تكن له، سنة 1975، القدرة على تنظيم هذه المسيرة بالسرعة التي أعلن عنها الملك. فقد ألقى الملك خطابه الخميس، قائلا: "غدا نفتح مراكز التطوع، وأنا أطلب 350 ألف متطوع، و10 في المائة من المتطوعين يجب أن يكن نساء"، والغرض من نسبة النساء هو إعطاؤها الطابع السلمي.
في فرنسا وإسبانيا قيل إن "ما يقوله الملك كذبة ومراوغة كبيرة"، وقيل في الجزائر: "هذه مناورة ولن تنطوي علينا".
لم يكن أحد يعلم أن الملك فكر في المسيرة لثلاثة أشهر قبل الإعلان عنها. ذلك أنه في شهر غشت 1975، أخذ الملك الحسن الثاني يفكر ويتساءل: إذا أعطتنا المحكمة الحق، ماذا علينا أن نفعل؟ هل نعود إلى الأمم المتحدة؟ هل نعود إلى إسبانيا للتفاوض معها على أرضنا؟
ماذا فعل الملك بعد هذه التساؤلات؟
قرر الحسن الثاني "سرا" تنظيم المسيرة، واعتبرها مظاهرة شعبية وطنية كبيرة للضغط على إسبانيا للدخول في مفاوضات، واعتبر أيضا أن تنظيم المسيرة يجب أن يكون سريا وألا يعلم به أحد، حتى يفجر القضية في وقتها.
ولإنجاح هذه المسيرة استدعى في بداية شتنبر، 3 من الضباط من القوات المسلحة الملكية، وطلب منهم تقديم القسم، وأقسم الثلاثة بين يديه على الحفاظ على السر، وقال لهم: "عليكم أن تقوموا بالإعداد لهذه المسيرة". وبسط لهم تصوره لطريقة التنظيم وتنقل الناس، وكيفية عيشهم في تلك الفترة..الخ.
بعد ذلك استقبل العمال لأداء القسم، وعلى كل واحد في عمالته أن يقوم بمجموعة من الإجراءات والاستعدادات، مع التأكيد على طابع السرية.
وقام الراحل الحسن الثاني بإخبار الحكومة بعد ذلك، وشدد على أن كل وزير يجب أن يشتغل وفق المطلوب منه.
ما هي "الكواليس" التي رافقت الاستعداد الإعلامي لملحمة "المسيرة الخضراء"؟
بعد خطاب الملك، اتجهت الأنظار إلى المغرب، لأن الملك قال في خطابه "إذا أطلقوا عليكم النار فتابعوا الطريق". هذه العبارات جعلت من المغرب محجا للصحافة الدولية، فأصبحت مراكش هي العاصمة العالمية في ذلك الأسبوع.
توافد الصحافيون من مختلف مناطق العالم، لمعرفة ما هو السر، وكيف ستنظم المسيرة، وهل ستنجح أو هذا فقط عبارة عن مناورة سياسة...
وأما المنابر الإعلامية الوطنية، فقد ساهمت في تعبئة المواطنين، وتابعت الأخبار وأوفدت مراسلين الى مدينة مراكش لمتابعة التطورات.
وأما التلفزة الوطنية والإذاعة المغربية، فقد كانت حاضرة في المعركة، فالإذاعة كانت حاضرة قبل الإعلان عن المسيرة الخضراء بحوالي سنة.
ماذا تقصد بالضبط، بحضور الإذاعة الوطنية سنة قبل الإعلان عن المسيرة؟
أمر الملك الحسن الثاني بإنشاء إذاعة جهوية في مدينة طرفاية، حيث لم يتجاوز سكان هذه المنطقة 400 مواطنا، واستطاع تقنيون ومهندسون في ظروف خاصة جدا إخراج الإذاعة الجهوية حيز الوجود، حيث أصبحت هذه الإذاعة تسمع بكثرة في المنطقة، بعدما كان من الصعوبة الحصول على أمواج الإذاعة الوطنية هناك.
وقبل شهرين ونصف من موعد 6 نونبر، قرر الملك إحداث محطة تلفزية ساهم فيها مهندسون وتقنيون مغاربة وفرنسيين، وأخذت تبث يوميا عددا من البرامج، وخاصة البرامج الإخبارية والوثائقية، وكان يشاهدها المواطنون في الصحراء في ذاك الوقت.
وكيف تعاملت بصفتك المهنية مع هذه الأحداث المتسارعة؟
كان وزير الانباء الطيب بنهيمة يعقد ندوة صحفية في كل يوم، للإجابة على الأسئلة، وإخبار الصحافة الدولية والوطنية بما يجري من أحداث.
تلقيت أمرا من الملك من أجل الالتحاق بمدينة مراكش، وكان قد كلفني قبل ذلك المدير العام للإذاعة والتلفزة بالبقاء في الرباط لمتابعة الأخبار، قبل أن يكلمني وزير الانباء بنهيمة، ويقول لي: "الملك يطلب منك فورا الانتقال الى مراكش".
عند ذهابك إلى مراكش، أوكلت لك مهمة برنامج "المسيرة الخضراء" الشهير في تلك الفترة. كيف كانت الأجواء المحيطة بهذا البرنامج؟
لا بد من الإشارة إلى أن فكرة برنامج "المسيرة الخضراء" تعود لجلالة الملك الحسن الثاني، وقمت أنا بتنفيذها، وكانت مدة البرنامج 60 دقيقة يوميا، وكان يبث مباشرة من القصر الملكي بمدينة مراكش.
أعطى الملك للتلفزة المغربية قاعة داخل القصر الملكي بمراكش، وقال لي "هذه القاعة داخلها ستشتغلون"، وصادف أن تلك القاعة كان فيها كذلك خرائط للقيادة العليا للقوات المسلحة الملكية.
كان برنامج "المسيرة الخضراء" يضم شقين؛ الشق الأول يتعلق بالإجابة على التساؤلات المطروحة للمتطوعين والمتطوعات، أما الشق الثاني منه، فهو الإعلان عن مسير الشاحنات والحافلات من مختلف مناطق المغرب نحو مراكش وبعده إلى الصحراء، في غياب وسائل للتواصل بين المتطوعين وعائلاتهم. وكانت مصادر الخبر من الدرك والجيش.
هذا بالنسبة للإعلام الوطني، كيف كان يتعامل جلالة الملك رحمه الله مع وسائل الاعلام الأجنبية؟
كان الملك رحمه الله في كل يوم يستقبل هيئة إعلامية، حسب الرسالة التي كان يود توجيهها، فعلى سبيل المثال، إذا أراد ان يوجه رسالة إلى الرأي العام الاسباني، يستقبل التلفزة الاسبانية، وعندما كان يوجه النداء إلى الرأي العام الأمريكي أو الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن الدولي، يستقبل تلفزة أمريكية. فكان في كل يوم هناك برمجة لتفلزة أو إذاعة أو صحيفة مهمة ومؤثرة سياسيا، لتصريف المواقف.
حدثنا عن قصتك مع "الخريطة" الشهيرة...
عندما كلفني جلالة الملك بهذا البرنامج، فكرت في صناعة خريطة من أجل التوضيح للمشاهدين عن تقدم مسير المتطوعين من مختلف الأقاليم، لم نكن حينها نتوفر على خريطة واضحة.
اضطررت رفقة مخرج البرنامج، الأستاذ محمد بوجنة رحمه الله، للاشتغال بطريقة مدارس الأطفال، بالاعتماد على المقص والأوراق الملونة، وقمت بصناعة الخريطة وكانت تظهر يوميا في البرنامج وبدت لوحة فنية.
ماذا قال الملك عنها؟
ذات يوم، كنت أجلس على الأرض، أستعد لعرض أشكال جديدة في الخريطة استعدادا للمباشر، باغتني الملك، قمت وقبلت يده، ثم قال لي "ماذا تفعل أنت في هذه القاعة؟"، طبعا لم أقدر على مواجهته وتذكيره أنه هو من أمرني بالمجيء إليها، والتزمت الصمت.
المفاجأة، هي أن الملك الراحل قال لي: "ابتداء من اليوم أنت أصبحت عنصرا في القوات المسلحة الملكية برتبة كوماندار".
وبقيت تلك الخريطة المصنوعة من الورق بمثابة أسطوانة صغيرة بسيطة، يأمر الملك وزراء خارجية الدول بزيارتي لشرحها.
وماذا وقع في 9 نونبر؟ وماذا عن واقعة "الكفن"؟
في ذلك التاريخ، والذي كان يوم أحد، أتذكر أنه وثق لأصعب خطاب ملكي في المسيرة الخضراء. كان بيننا وبين الإسبان 300 متر، وأصبحنا وجها لوجه، وكان التعب قد نال منا، وقفنا ننتظر القرار لملكي.
أكد الملك الحسن الثاني، في ليلة التاسع من نونبر، على ضرورة العودة الى الوراء. ومعنى ذلك العودة الى النقطة الأولى التي تم فيها حط الرحال، وكأنه لم يسبق لنا دخول الصحراء، ما خلق اضطرابا لدى الكثير من المواطنين.
هناك من اعتبر الأمر هزيمة، وأن دولا قوية ضغطت على الملك، وتعددت وجهات النظر واختلفت، وهناك من انهمر بالبكاء.
وبالنسبة لواقعة "الكفن" التي سألتني عنها، أقول إن رجلا كبيرا في السن قصدني وهو يسأل: "السي معنينو آش طرا للملك؟".
أخبرته أن لا شيء وقع معه. تم سأل مرة أخرى، لم أمرنا بالعودة؟ أجبته: الملك هو من يقودنا، إذن فلندع القيادة له والحساب يجب أن يكون بعد نهاية المعركة.
رفض الشيخ كلامي، وقال "أنا جئت للموت في هذه البلاد وأكون شهيدا". أتذكر جيدا أنه حمل سلهاما بني اللون، وأخرج منه ثوبا أبيض ملفوفا، بداخله أعشاب ترافق جنائز الموتى في قبورهم "حنوط"، مرددا "هذا كفني جئت لأستشهد هنا".
الاشاعة في الصحافة أمر مرفوض. هل كانت الاشاعة تتسلل بين الفينة والأخرى لوسائل الاعلام في تلك الفترة العصيبة؟
دعني أحكي واقعة حصرية، لـ"SNRTnews". قبل أن ندخل الصحراء، لم نكن نتوفر على الأخبار. كنت أقرأ بشكل يومي الصحافة الدولية والوطنية في مراكش، لكن في الصحراء انقطع الأمر. وقد انتشرت إشاعة قوية مفادها أن المغرب استورد مئات القردة من الغابون. وقد أقسم لي شخص بأنه رأى قردة في صناديق خشبية، حيث قيل إن المغرب سيطلق القردة تمشي في الأرض بسبب زرع الألغام.
ونظرا لقوة هذه الاشاعة، تناقلتها جرائد دولية ذات صيت عالمي، مثل "لوموند" و"نيويورك تايمز"، نقلا عن مراسليها!
مقالات ذات صلة
مجتمع
سياسة