رياضة
الحراق .. جنتلمان الأحد الرياضي
28/09/2022 - 08:51
يونس الخراشيجاء الحراق، رحمه الله، إلى الإذاعة الوطنية، بالرباط، سنة 1975، مع زميله، ورفيق دربه، المهدي إبراهيم. حملتهما معا مباراة اختيار إذاعيين للاشتغال بالقسم الرياضي. ثم غمرته المهنة بسحرها، ليسبح في بحرها طويلا، مهووسا بالتنشيط، والوصف، وحب الرياضة.
يقول رشيد جامي، في تأبين صديقه وزميله الحراق:"كان عبدالفتاح الحراق، رحمه الله، رجل ثقة نورالدين اكديرة، أحد كبار الرواد في القسم الرياضي للإذاعة الوطنية. وهكذا بدأت صلته بتنشيط "الأحد الرياضي"، ليصبح، لاحقا، هو منشطه رقم واحد. متسلحا بصوته العذب، ودقته في التوصيف، وإلمامه الشمولي بالأنواع الرياضية، وقدرته الهائلة على العطاء في العمل".
لم يكن عبدالفتاح الحراق يمل من الاشتغال. فهو دائما جاهز لكي يعمل؛ سواء في الصباح أو في المساء، أو حتى للسفر إلى أبعد أصقاع الدنيا، لتغطية مباراة للمنتخب الوطني، أو منافسة من المنافسات الدولية في رياضة ما. مثل أي جندي متأهب بلباسه الكاكي، وميكرفونه في اليد.
ومع ذلك، فعبدالفتاح الحراق، الذي ظل يشتغل بالتذييع إلى أن فارق الإذاعة الوطنية، متقاعدا من العمل، لم ير يوما وهو يشتكي من كثرة الشغل، أو بمزاج عصبي حاد، أو بردات فعل سيئة، جراء ضغط العمل. فالرجل كان هادئا باستمرار، لا تصدر عنه إلا الكلمات التي لا تجرح. مهما كان الموقف.
ولأنه كان مغربيا أصيلا، من أبناء مدينة سلا العريقة، وعاشقا للرباط، فقد ظل عبدالفتاح الحراق متشبثا بالأغنية المغربية في كل حلقات "الأحد الرياضي". لا يفوت فرصة لكي يشنف أسماع الجماهير الرياضية بأغنية من أغاني إسماعيل أحمد أو إبراهيم العلمي أو لطيفة رأفت، أو بقية الكبار، مذكرا، في النهاية، بكاتب الكلمات والملحن.
وبين تنشيطه المثير، الذي عشقه الملايين واحتضنوه، فظلوا ينتظرونه على أحر من الجمر، وتلك الأغاني الخالدة التي كان يبعث من خلالها رسائله الخاصة، صار "الأحد الرياضي" طقسا من طقوس نهاية الأسبوع، يكاد يشبه طقس أكل الكسكس يوم الجمعة، أو طقس زيارة الأقارب يوم العيد. حتى إن وجود المذياع في اليد لمتابعة المنافسات الرياضية أصبح مشهودا، ولاسيما في الملاعب.
وككل المبدعين الكبار، فقد كان الحراق بشخصية عجيبة، وخاصة للغاية. فبقدر ما كان رجلا "حدوديا" بالتعبير الدارجي، يحب الاختلاء بنفسه، والاعتكاف في مكتبه، والانشغال بعمله، بقدر ما عُرف عنه حبه للناس، ولزملائه، وبخاصة للشباب منهم، بحيث ظل يقدم يد المساعدة للملتحقين الجدد بالإذاعة الوطنية، بل وحتى بالتلفزة المغربية.
يقول محمد زمان، أحد كبار الصحافيين بالتلفزة المغربية سابقا، مؤبنا المرحوم الحراق:"كيف لي أن أحكي عن عشرة طويلة جمعتني بهذا الرجل الطيب. لقد كان زميلا وصديقا وأخا في وقت واحد. منذ لقائي به حين التحاقي بالتلفزيون، ظل المرحوم يقدم لي ولغيري يد المساعدة والدعم والتشجيع، فضلا عن النصائح المهنية. إنه هرم من أهرامات الصحافة الرياضية الوطنية، لغته سليمة، وعمل كثيرا على توظيف مصطلحات من الدارجة المغربية حتى يقرب المادة الإعلامية من الجماهير".
يعد عبدالفتاح الحراق من قلائل الصحافيين المغاربة، المشتغلين بالرياضة، الذين حضروا معظم المنافسات الدولية الكبرى، من كأس إفريقيا للأمم لكرة القدم، وبطولة العالم لألعاب القوى، والألعاب الأولمبية، والمونديال. وهو ما أكسبه خبرات كبيرة في التنشيط والوصف، لاسيما في وقت كان المذياع الرسول الوحيد الذي يوصل الخبر، وكان الوصول إلى المعلومة أشبه بالوصول إلى القمر.
يقول سعيد زدوق، الواصف الرياضي الشهير، مؤبنا المرحوم الحراق:"جمعتنا على مدى أربعين سنة أحداث رياضية وطنية وإقليمية ودولية كان فيها المرحوم مثالًا للصحفي المخلص لمهنته والمقدر لجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، في وقت كانت الإذاعة الوطنية المصدر الإعلامي الأول للخبر، علمًا بأن الإمكانات التقنية المتوفرة آنذاك لم تكن عاملًا مساعدًا لتقديم خدمات بمواصفات عالية كما هو الحال الآن".
لا يذكر نورالدين اكديرة والمهدي إبراهيم إلا ويذكر معهما عبدالفتاح الحراق، باعتبارهم ثلاثي القسم الرياضي للإذاعة الوطنية، الذي رسخ للمدرسة المغربية الأصيلة في التنشيط والوصف. وهؤلاء بالذات من أسهموا في شهرة جيل الأيوبي والعزاوي ولبيض ومحمد التويجر عادل العلوي ورشيد جامي، وغيرهم ممن ظلت الجماهير تنتظرهم، وتحبهم، دون أن تعرف لهم صورة، إلا تلك المتخيلة لأشخاص يملكون أصواتا رائعة، خلابة، جذابة، تشذ الأسماع، وتأسر القلوب، وتطرب الأرواح، ولا تمل أبدا.
وعلى مدى أربعين سنة من العمل الإذاعي، ظل الحراق نبيها، لاسيما في التعاطي مع المباشر، الذي كان السمة الأساسية لبرنامج "الأحد الرياضي"؛ برنامج تقديم المنافسات الرياضية، وخاصة منها مباريات البطولة الوطنية بفئاتها، وبقية المنافسات. أنيقا في كلماته، وفي توصيفاته، وفي طرائفه، وتلك اللمسات الجميلة التي كان يضفيها بحضوره البهي الشهي، كأي طائر يعرف أين يقف، ومتى يطير، وفي أي زمن ومكان يغرد.
ومثلما عاش المرحوم الحراق أنيقا، زاهدا في ما عند الناس، ومترفعا عن اكتساب المزيد، بحيث ظل يعيش في بيت الكراء، وبدون سيارة، فقد ترك الدنيا أنيقا أيضا، بصوت معشوق، وطيبة قلب مشهودة، وتعامل بهي مع الغير، ورحلة سيذكرها التاريخ دائما في سجلات الباحثين، والجدد، والراغبين في الاطلاع على الماضي.
رحم الله عبدالفتح الحراق، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
مقالات ذات صلة
رياضة
مجتمع
نمط الحياة
نمط الحياة