عالم
زها حديد.. مهندسة زادها الخيال
01/04/2021 - 10:04
يونس الخراشيكانت ابنة وزير المالية العراقي الأسبق، محمد حديد، المولودة بتاريخ 31 أكتوبر 1950 ببغداد، "غريبة الأطوار" منذ نعومة أظفارها. هكذا تصف نفسها، وتقول: "كانت أسرتي كلها غريبة الأطوار. ولكن والدي ووالدتي ركزا على تعليمي وتعليم أخوتي. كان التعليم والمعرفة أمرين مهمين للغاية. وحين بدأت أكبر، شعرت بأن أبي وأمي يمنحاني الثقة اللازمة. وهذا ساعدني كثيرا في بناء شخصيتي، وحياتي".
أحبت زها حديد الهندسة منذ الطفولة. فقد كان البيت بالعاصمة بغداد جميلا وأنيقا جدا. وتحكي، في أحد لقاءاتها الصحفية، بأنها ذهبت، في مرة، وهي في السادسة من عمرها، إلى معرض بغداد، وهناك شعرت بالانبهار. وهو الانبهار الذي تطور إلى رغبة، ثم إلى حماس. وحتى إن لم تكن تعرف ما الذي يدفعها لأن تكون مهندسة، فإن التصاميم كانت تستهويها.
لم يكن كل شيء سهلا في حياة الراحلة زها حديد. بداية من الحاجة إلى تغيير الموطن لإتمام الدراسة. ذلك أنها انتقلت، سنة 1968، إلى الجامعة الأمريكية ببيروت، اللبنانية، حيث ستحصل على الليسانس في الرياضيات سنة 1971. ثم رحلت، سنة 1972، لتدرس في الجمعية المعمارية بلندن، وتحصل، سنة 1977 على دبلومها.
وحين ولجت المجال العملي، وراحت تدرس في عدة جامعات، عبر العالم، كانت النظرات المريبة تصوب إليها من كل ناحية. أولا لأنها امرأة، وثانيا لأنها سيدة عربية، وثالثا لأنها "غريبة الأطوار" ولا تقدم أشياء تقليدية. وأيضا، وهذا مهم للغاية، لأنها لا تنظر إلا إلى أهدافها، بتصميم. فهي لم تكن تقيم وزنا للأشخاص السلبيين، بل تحيط نفسها، دائما، بالأناس الإيجابيين. ومن ضمنهم المهندس بيتر رايس، الذي قال لها، وهي بدون عمل:"عندما تصممين أول مبنى، سيقف الناس أمام منزلك حتى الليل".
وبالفعل، فمنذ أن صارت تصاميمها بنايات على أرض الواقع، صار الناس يأتون إليها، ليقفوا أمامها مندهشين ومشدوهين ومعجبين، ولفترات طويلة، قد تمتد حتى ساعات الليل. يأتون، من كل فج عميق، ليمتعوا العين بتصاميم تمتح من الانسيابية في المعمار؛ حيث الاتجاه الذي ظهر سنة 1971، يدعو إلى هدم كل ما له علاقة بالهندسة الأوقليدية، نسبة إلى الرياضي اليوناني أوقليديس. بكلمات، الاختلاف عن كل ما هو تقليدي.
في مرة قالت حديد: "أعتقد أن فكرة الحداثة الجديدة لا تقتصر على وجود أشياء في صورة متطابقة، إنما هي عبارة عن وجود عدة أشياء مختلفة في آن واحد". وهو ما جسدته في كل تصاميمها المعمارية الصغيرة والكبيرة، ملحة على الانسيابية، والتفكيك، والاعتماد على الحديد لتحمل عليه الخرسانات الكبيرة، بحيث تجسد كل الأشكال الحالمة، وغير المتوقعة. ومن العجيب أنها لم تنجح بما يكفي في العالم العربي، حيث ظل كثيرون ينظرون إليها على أنها ذات "تصاميم متهورة". تقول في حديث صحفي: "لا أستطيع أن أعمم. فرغم أن مشاريع كثيرة تخصني لم تنجح في العالم العربي، إلا أن هناك مشاريع أخرى نجحت، ومن ضمنها مشروع في المغرب (مسرح العاصمة الرباط)".
هذا المسرح، الذي يوجد وسط العاصمة، شيد على مساحة تقدر بـ47 ألف متر مربع، ويبرز كنقطة ماء تنساب على ضفة نهر أبي رقراق، يضم "قاعة كبرى للعروض تتسع لـ2,050 شخصا، يشتمل على خدمات سمعية بصرية متطورة، إلى جانب مسرح صغير يتسع لـ520 شخص، فضلا عن ساحة خارجية تتسع لـ7 آلاف شخص لاستقبال مختلف التظاهرات الموسيقية والفنية علاوة على مرافق أخرى متنوعة".
أعمال الراحلة حديد كلها مميزة. وكل عمل يبدو أكثر جمالا وطرافة وغرابة من الآخر. وهكذا. فمن محطة إطفاء فيترا بألمانيا، إلى مركز روزنتال للفن المعاصر في سينسيناتي الأمريكية، إلى دار الأوبرا بغوانزو الصينية، إلى مركز الفنون الحديثة بروما، إلى محطة القطار نوردبارك بأولسبروك بالنمسا، إلى مركز حيدر عليف بباكو بأزربيدجان، إلى جسر الشيخ زايد بأبو ظبي، إلى دار الملك عبد الله للثقافة والعلوم بعمان بالأردن، إلى المبنى العائم بدبي، إلى محطة الميترو بالرياض السعودية، إلى الملعب الوطني باليابان، وغير ذلك كثير، هناك دائما هدم لكل ما هو تقليدي، وإتاحة شكل جديد، انسيابي، بمنحنيات، وطاقة تخييلية مذهلة للرائي.
آمنت الراحلة زها حديد، طيلة حياتها، بأن الهندسة تصنع حياة جديدة ومختلفة للناس. تماما مثلما فعلت السيارة بالمدينة ذات زمن. حيث غيرت كل شيء، وقربت أشياء كثيرة كانت بعيدة وصعبة المنال. ولهذا ظلت تجدد، وكلما أبدعت شكلا جديدا، وثقت في نفسها أكثر. وقالت مرة: "حين نكون صغارا نشعر بالثقة من خلال الأشخاص الكبار الذين يحيطون بنا. وحين نبدأ بالتقدم في السن، يصبح النجاح في عملنا هو ما يمنحنا الثقة. وكلما استمر ذلك، نجحنا أكثر".
كرمت الراحلة حديد في الكثير من المناسبات. ونالت أفخر الأوسمة. غير أنها بقيت تشعر بالندم لأن هناك أماكن تحبها لم تستطع أن تمنحها التصاميم التي تريد، وتبصمها بخيالها الفريد. ولعل العاصمة لندن، حيث تعلمت درس الهندسة، وأصولها، وظلت تعيش، لم تسعفها كي تقدم أعمالا كبيرة.فباستثناء بعض المدارس، وبعض القاعات، وغيرها، تأسفت الراحلة كونها لم تقدم المفترض في عاصمة الضباب.
كانت الراحلة حديد، في كل أحاديثها، تؤكد بأنها فخورة كونها عربية، ولكنها لا تبالغ أو تغالي في ذلك. وظلت تظهر عربية بالفعل، ولكن بعقلية متفتحة استمدتها من الوالد، الرجل الليبرالي المثقف، والحالم بعراق جديد. وحين كانت تظهر هنا أو هناك، فبشعر حر، لا يغطي قسمات وجهها الكبيرة والواضحة، ونظراتها فوارة. تماما مثل تصاميمها المذهلة. ويشي لبساها الأنيق، والخاتم الكبير في يدها اليسرى، والسوار المزركش على طرف يدها اليمنى، بأنها بالفعل "غريبة الأطوار"، كما ظلت تصف نفسها.
ولأنها فلتة بكل ما تعنيه الكلمة. فقد كانت نهايتها أيضا مفاجئة، مثلما كانت حياتها بالطول والعرض. فقد توفيت زها حديد بنوبة قلبية، بتاريخ 31 مارس 2016، وهي بعمر 65 سنة. إذ كانت سافرت إلى ميامي الأمريكية لتعالج من التهاب الشعب الهوائية، لتتوقف أنفاسها نهائيا، وهي في عز شبابها المتفرد، وطموحها المتجدد، وحماسها المتمرد. وقال مكتبها اللندني في بيان النعي حينها: "زها حديد كانت تُعتبر إلى حد كبير أهم مهندسة معمارية في العالم اليوم".
هل قلت إن الراحلة زها حديد كانت تحلم كثيرا؟ هي ظلت دائما تقول العكس. بل كانت تؤكد أنها لم تحلم أبدا، وإن تصاميمها من صميم الواقع. ولكن حين كانت تسأل عما إذا كانت تشبه عصرها، ترد: "نعم. المستقبل هو الآن، وليس بعد خمسين سنة. أعتقد أن لدينا الكفاءات والمعرفة لإنشاء بنايات رائعة. التكنولوجيا أخذتنا إلى أماكن بعيدة... سهلت الأمور، وساعدتنا في تنفيذ الأشياء المعقدة".
بمعنى آخر، لقد كانت الراحلة زها حديد تحلم دائما. بل قل كانت تسافر في طي الأحلام. تهندس الأحلام، حتى صارت أحلامها من صميم الواقع. وصارت هي ملكة التصاميم. مهندسة زادها الخيال.
مقالات ذات صلة
نمط الحياة
نمط الحياة
نمط الحياة