رياضة
مارادونا.. عفريت كرة القدم
25/11/2020 - 22:53
يونس الخراشيجاء مارادونا، المولود بتاريخ 30 أكتوبر 1960، ببوينس أيريس، إلى عالم الكرة على ظهر الفقر، نزقا، عاشقا، مفتونا، وفاتنا أيضا، بجسده المثير، وقامته القصيرة، ولمسته الساحرة، وضحكته الفياضة، وحلمه الكبير جدا.
من البداية، قال للناس كلهم إنه يريد الفوز بكأس العالم. ولم يخيب ظنهم فيه. فقد فاز بمونديال 1986، بينما كان بقية لاعبي المنتخب الأرجنتيني يرافقونه في المباريات، ويعجبون مع الجمهور. ويصفقون أيضا.
بدأ اللعب صغيرا للغاية. وكان قاب قوسين من المشاركة في مونديال 1978، الذي استضافته الأرجنتين. ولكن لم يكتب له أن يقود منتخب بلاده إلا بعد حين، إذ برز في مونديال 1982 بإسبانيا، حيث خانته الخبرة، ليطرد من مباراة ربع النهائي ضد البرازيل، حين ضرب أحد الخصوم في بطنه متعمدا. وسمح مذيع بلجيكي يقول حينها:"سيحتاج مارادونا برودة الأعصاب في بقية مسيرته".
ومع ذلك، فمارادونا لم يكن يوما بأعصاب باردة؛ سواء وهو في الملعب أو خارجه، حيث صار، بمرور الوقت، نجما حتى في الحياة، بل "عفريتا من عفاريتها". يجر إليه عدسات الكاميرات باستمرار، وتتسابق إليه ميكرفونات الإعلاميين. وفي أفضل الأحوال، يتزاحم عليه عشاق يستعطفون "تذكارا"، فتراه يمرح معهم، وقد يتصرف بنزق، في أي لحظة، فيصبح حديث العام والخاص على مدار أيام.
جمع مارادونا، اللاعب، بين مميزات لم تجمع لغيره أبدا. فهو كان بيلي وغارينشا وكامبيس وكوبياس وأوزوبيو وبلاتيني وزيكو وسوقراطيس، وآخرين غيرهم. كان يملك القدرة؛ بل قل القدرات بالجمع، على المراوغة ببساطة وسحر، ودون أن يثير انتباه المدافعين إلى الجهة التي سيمضي نحوها، فينخدعون باستمرار، وكأنه "يسمرهم" على الأرض، أو يحنطهم، ثم يعبر بشموخ.
وكان يتجول في الملعب كيف يشاء، وأنى شاء، دون أدنى حرج تكتيكي. وفي الوقت الذي يعجب الجمهور بتجواله الساحر في الملعب، وهو يبحث عن كرة يداعبها، ويتقدم بها نحو المرمى، ترى بقية زملائه يخضعون لقيادته، وتوجيهاته، وينضبطون بآلية لما يرغب فيه. وإذا به يفاجئك، وكأنه يطير، ليصبح على بعد خمسين مترا أو أكثر من مكانه الأول. ولا تسأل كيف تسنى له ذلك. فهو "عفريت".
وكان مارادونا ملك الدقة في التمرير والتسديد معا. يمكنك أن تذهب إلى الموقع الذي تريد في الملعب، وبالإيقاع الذي ترغب فيه، وستجد الكرة على رأس قدمك بالمليمتر. وحين تتاح الفرصة لتسديد ضربة خطأ قريبة من منطقة العمليات، ينسحب الجميع، وتشعر كما لو أن الكرة بنفسها تنتظر مارادونا كي ينفذ. وربما تتابع نفسها وقد سددها، مسحورة بلمسته الفاتنة، وقد غالطت الحارس، واستقرت في الشباك.
في أحيان كثيرة، كان مارادونا يخادع كل الناس، ويحرز الهدف في الوقت غير المتوقع. ولعل الهدف الأول الذي أحرزه، في مونديال المكسيك، في مرمى المنتخب الإنجليزي، خير مثال على ذلك. فلا الحارس بيتر شيلتون، ولا الحكم التونسي علي بناصر، ولا حكم الشرط، ولا الجماهير، ولا غيرهم توقع أن يمد مارادونا يده، ويدفع الكرة إلى المرمى، معلنا عن الهدف الأكثر إثارة وجدلا في تاريخ المونديال.
ويمكن قول الشيء نفسه عن الهدف الثاني في المباراة. فبينما كان مارادونا يلامس الكرة في وسط الملعب، لم يتوقع أحد أنه سيندفع بسرعة، والكرة تلتصق بقدمه اليسرى، ليراوغ ستة لاعبين، ويتلاعب بالحارس، ويضع الكرة بهدوء في المرمى، معلنا، مرة أخرى، عن هدف قيل عنه إنه تحفة، وسيظل يكتب عنه على مدار التاريخ.
عندما لعب مارادونا لـ"البارصا" بين سنتي 1982 و1984، صنع المعجزات، حتى وهو يعاني خشونة كبيرة وزائدة عن اللزوم من مدافعي البطولة الإسبانية. أما وهو ينتقل إلى نابولي الإيطالي، من 1984 إلى 1991، حيث ظن كثيرون بأنه سيعاني أكثر؛ وهو ما حدث بالفعل، فقد أحدث رجة في البطولة الإيطالية كلها، وصار مثل نار تأكل كل شيء، وتزداد اشتعالا وتوهجا.
وسواء بإسبانيا أو بإيطاليا، وفي البطولة المحلية أو على الصعيد الأوروبي، فقد خلف مارادونا، للأرشيف المرئي، صورا مذهلة بحق. ويكفي المرء أن يكتب الاسم السحري على موقع "يوتيوب" ليجد نفسه، بعد فترة من الزمن، وقد سحره "العفريت" بحركته، وابتسامته، ومراوغته، ووقفته، ومشيته، وضربته، وقفزته، وأهدافه الغزيرة والمثيرة، وقدرته العجيبة جدا على ألا يسقط حيث تظنه سيسقط، أو قدرته الكبيرة على أن يقاوم الخشونة، وينهض ليواصل التقدم، ثم يفكر بسرعة الضوء، ويتخذ القرار، وينفذ، ليكون فعل كل شيء، بينما الآخرون، ممن يفترض بهم أن يقاوموا حركته ومراوغته ومحاولته، متخلفين عنه.
هل كان مارادونا يسبق غيره في الزمن، ويشاهد ما سيحدث، ثم يختار الطريقة المناسبة للمراوغة، فيراوغ؟ هل كان لاعبا بطاقة غير بشرية؟ هل كان يملك شيئا خاصا به يعطيه القدرة على أن يقرأ ما حوله، ويقرر، وينفذ، في اللازمن؟ هل كان لاعبا سبق زمنه؟ هل كان يلعب بينما الآخرون يشتغلون فقط؟ هل كان "عفريتا من الجن" وحسب؟
في مرة، وكان مارادونا، قائدا لنابولي، يتهيأ لتسديد ضربة خطأ غير مباشرة، على بعد أمتار قليلة من مرمى جوفنتوس. تساءل كل من كان يتابع: "ما الذي سيفاجئنا به هذا الساحر مجددا؟". وحبست الجماهير أنفاسها. ثم ما أن أطلق الحكم الصافرة، وتلقى مارادونا الكرة، بتمريرة قصيرة من زميل له، حتى لمسها لمسة خفيفة، بحيث طارت ملولبة، كلما تقدمت إلى المرمى إلا وابتعدت عن يدي الحارس المشدوه، لتستقر بالزاوية التسعين. جن جنون الجماهير، والواصف الرياضي. ولم تبق وسيلة إعلامية في العالم تهتم بالكرة إلا وحاولت أن تجد تعبيرات تصف بها الحدث، دون أن تفلح.
هناك شريط فيديو بالأبيض والأسود لمارادونا الطفل وهو يداعب الكرة. لعله في سن العاشرة، حين انطلق من نادي "إستريلا روخا". وهناك أشرطة أخرى للاعب في سن متقدمة. وكأنه لم يكبر قط. بقي هو نفسه. بقصة الشعر المنسدل على كتفيه. وضحكته الفياضة. وقدرته الشيطانية على مداعبة الكرة. وجذب الجماهير، حد أن العيون كلها تسافر إليه، ومنها أعين خصومه في الميدان.
عندما تحدث دييغو أرماندو مارادونا إلى قناة "العربية"، قبل سنوات قليلة، قال إنه "تشي غيفارا كرة القدم". قالها لمرات: "أنا هو تشي غيفارا كرة القدم". ثم أوضح، وقد بدا خداه مكتنزين، وجسمه مترهلا، بأنه أفضل لاعب في تاريخ الكرة، وزاد: "باعتراف الجميع، كل اللاعبين يحبونني، ويؤكدون لي بأنني الأفضل. أفضلهم". وقال أيضا: "أنا أعشق الناس. كنت دائما أعشق الناس، وأحب الفقراء. لا أستطيع أن أختبئ عن الناس، أو أنزوي عنهم".
ولكن "العفريت"، الذي كان "يساريا" في تفكيره، مثلما كان في كرته، حتى إنه صاحب الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو لسنوات طويلة، وثار ثورة هادرة على السويسري جوزيف بلاتير، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، باعتباره "دكتاتورا" يتلاعب بمقدرات اللاعبين البسطاء. لم يستطع أن يتحكم في نفسه خارج الملعب، كما كان يتحكم في الكرة. فقد تلاعبت به الحياة، فتعاطى المنشطات، والمخدرات بأنواعها، ولم يستقر على حال أبدا، إلى أن توقف نبضه يوم الأربعاء 25 نونبر 2020. ومرة أخرى، في غفلة من العالم.
مات مارادونا. ومن الآن فصاعدا سيبدأ التاريخ حكاية الألف ليلة وليلة عن الأسطورة. إنها حياة يطول شرحها. وسيطول بداية من اليوم أكثر فأكثر...
مقالات ذات صلة
رياضة
رياضة