فن و ثقافة
إسطنبول .. مدينة تحب جيوب السائحين
23/08/2022 - 22:57
يونس الخراشيتشبه مدينة إسطنبول التركية شجرة ضخمة لأعياد الميلاد، تبرز منها بالنهار أجراسها وكراتها الملونة، وبالليل أضواؤها المتناثرة مثل نجوم السماء. ولكنها شجرة للزينة فقط، وثمنها غال جدا. وهي وإن كانت مدينة بحرية يحيط بها الماء من عدة جهات، إلا أنها جوانية بامتياز، بحيث تتحرك داخل نفسها أكثر مما تتحرك خارجها. ومع أنها رشيقة، ونشيطة، وتعشق الحركة، إلا أنها تفتقد الابتسامة. وهذا يحير الناس، ويجعلهم يعودون إليها ليكتشفوا السبب. لكن، دون جدوى، اللهم إلا جولات أخرى، ومصاريف جديدة. تمتد إسطنبول على مضيق البوسفور، وتقع في كل من أوروبا وآسيا. وهي المدينة الأوروبية الأكثر اكتظاظًا بالسكان. مناخها معتدل. أما مزاجها فمرمر كبحر مرمرة حينا، وأسود كالبحر الأسود حينا آخر. مشاهدات من مدينة لا ترتاح أبدا، ولا تريح.
مشهد رقم 1 .. بانوراميك صباحي من السطح..
لا راحة في إسطنبول. فهذه المدينة لا تتوقف عن الحركة أبدا. سواء في النهار أو في الليل. هي فوارة، ومنطلقة، والناس فيها يسرعون، إلى حد مذهل، وكأن شيئا ما سيأتي ويتعين عليهم أن ينطلقوا. أما السياح، وبالنظر إلى كثرتهم، وتنوعهم، فإنهم يزيدون الحياة الإسطنبولية فورانا، ويزيدون رغبة التجار، وبياعي الأثواب والأطعمة، والذهب، والتذكارات، والعطور، والمرطبات، وغيرها، نزقا، حد الشره.
حتى من الطابق السادس، والأخير، للفندق الصغير في الجانب الأوروبي من المدينة، كانت إسطنبول تبدو فوارة. فمع أولى ساعات الصباح، حين تبدأ أشعة الشمس في غسل الوجه الآسيوي للميتروبول، تنطلق مكبرات العبارات، ومنبهات السيارات، ثم تتلوها مكبرات الترامواي، وهو يخترق تلك الأزقة الضيقة، وصرير كراسي المطاعم، وصياح بعض الباعة، بل وسباب من يرغبون في العبور، وغيرهم يريد لحظة لإنزال زبون، أو لحمل متاع، أو شيء من هذا القبيل.
ومن سطح الفندق؛ أو الطابق السابع، تبرز المعالم السياحية الشهيرة دفعة واحدة، متلفعة في معمار إغريقي وروماني ويوناني وبزنطي وعثماني، وكأنها تحرس المدينة، وتبقى قائمة لكي تذكر السائحين، المقبلين بشراهة على الشوارما وحلويات الحلقوم والبسبوسة والكنافة والمرطبات والآيس كريم والملابس والتذكارات، أنهم جاؤوا، أساسا، لكي يزورونها. ولئن كانت ناطحات السحاب تظهر من بعيد، وسط بنايات متناثرة بلا حصر في الأفق، إلا أن مآذن مسجد السلطان أحمد، والقبة المذهلة لمسجد آيا صوفيا، وبرج غلطة، والقصور المشرفة على مضيق البوسفور، تتسيد المكان كله، وبلا منازع.
الصورة نفسها تظهر لك إسطنبول وكأنها مدينة بلا شارع أو زقاق. فمن فوق يبدو المشهد عبارة عن بيوت وعمارات ومعالم سياحية، وبعض الأشجار، وبحر ممتد، بعبَّارات، وجسور. لا مكان فارغ. أو تقريبا ليس هناك مكان للفراغ. فكل شبر مشغول بشكل من الأشكال. فإن لم يكن مشغولا بالتاريخ؛ عبر معلمة أثرية، سياحية، فهو مشغول بشيء من الحاضر؛ بفندق صغير، يعلو سطحه مطعم، أو مبنى تجاري، أو عمارة سكنية، أو عمارة قيد الإنشاء. قال أحدهم:"هل تعرف كم يبلغ سعر محل تجاري في تقسيم؟". سكت برهة، ومضى يقول:"إنه سعر خيالي، بالملايير. نعم بالملايير".
مشهد رقم 2 .. فطور قرب مسجد آيا صوفيا..
شيء واحد فقط لم يفعله صاحب المقهى القريب من مسجد آيا صوفيا، بإسطنبول، ليظهر أنه غاضب من أولئك الزوار الجدد، وقد جاؤوا إلى مقهاه يطلبون مشروبا ساخنا، وهم محملين ببعض الفطائر من مخبزة قريبة. قال كلاما غير مفهوم ليظهر الغضب. قطب الجبين، وأعلى الحاجبين، ورفع صوته أيضا، ولكنه لم يستعمل الضرب إلا في الثمن.
وما أن غادر هؤلاء، حتى راح يغمغم خلفهم، مشتكيا من زيارتهم التي يرى أنها بلا طائل. تماما مثلما فعل بائع الفاكهة، الذي جاء مسرعا من صلاة الجمعة، ليقول للمشتري ما معناه:"لا تضع يدك على أي شيء، وأسرع حتى لا تعطل عملي، وتفقدني مشترين غيرك". مع ألا أحد كان يقف هناك. وكم غلا في الثمن هو الآخر.
أصحاب محلات ومتاجر لبيع أشياء مختلفة في إسطنبول تعاملوا بالأسلوب ذاته، تقريبا. بدوا بدون ابتسامة، وأقرب إلى التوتر، وكأنهم يريدون المال فقط، دون أن يقدموا الخدمة المطلوبة. والذين كانوا مختلفين، حتى بدوا أقرب إلى الاستثناء، كانوا أكثر انسجاما مع تلك المعالم التاريخية العظيمة للمدينة، وبحرها، وشجرها، وطيورها، وهوائها، وكل شيء فيها يغري بالتجوال دون توقف.
في الفندق الصغير لم يتغير شيء. طلب أحدهم شربة ماء. فرد عليه الشاب، الذي كان يقدم الخدمات، بابتسامة، هذه المرة:"يمكنك أن تشتري قنينة من محل قريب منا". واستعمل الإشارة لكي يدل على الطريق إلى المحل المقترح. ثم انطلق، بسرعة، ودون أن يترك أي انطباع بأنه خجلان من موقفه، إلى عمل آخر.
قال كثيرون من سياح المدينة إن إسطنبول لم تتغير، ولن تتغير. أرجعوا ذلك الأسلوب في التعامل إلى الغلاء، وحاجة الناس للمال. وقال البعض إن المدن الكبرى عبر العام هذه أخلاقها، إن كان لها أخلاق. ورد غيرهم ذلك الأسلوب في التعامل إلى الدورة السريعة للحياة، وفورانها، مما يجعل الناس أقرب إلى الآلية، فهم متوترون، مثل سائق مسرع، لا يريد لأحد أن يقف في وجهه، ويستعمل المنبه بكثرة، فلا يزعجه ذلك.
المشهد رقم 3.. على الرصيف الضيق..
"استعدوا لمشي متعب ولذيذ، ودروب تفضي إلى أخرى أكثر إثارة، وأشياء لا تحصى تستحق المشاهدة". قالت حنان الشفاع، الإعلامية العاشقة لإسطنبول. ثم تقدمت المرافقين لها، وراحت تتحدث عن مدينتها، وهي تمضي، بثقة كبيرة، في أزقة ضيقة مرصوفة بحجر من بازالت. تقودنا في رحلة طويلة من الجانب الأوروبي للمدينة إلى جانبها الآسيوي.
ألقت المدينة، هذه المرة، بكل أسرارها. لم تخف شيئا. فهي عبارة عن سوق مفتوح، حيث تباع أشياء بلا عد. وأهلها على أهبة ليتاجروا معك، ولكن بسرعة، ودون صبر. فوقتهم أثمن من سلعتهم. ولا طاقة لديهم كي يضيعوه معك، وربما يكون الزبون المقبل أكثر سخاء ورغبة في الشراء. "يوك .. يوك .. يوك". يقولون لك. أي إمض، دعنا نشتغل. هذا حتى إن كنت تريد الشراء، أو اشتريت منهم. فما بالك بالعكس.
حتى التراموي، الذي يعبر من تلك الشوارع الضيقة، إلى الأزقة، يكاد يدهس المارين. فسائقوه ليس لديهم، هم الآخرون، وقت ليضيعوه. وكأنهم في سباق مع بعضهم البعض. أو مع شيء غير محدد. يستعملون المنبه بكثرة وبقوة. وتراهم، وقد تخلف أحد ما عن الانزياح من مكانه، يصرخون، أو يحركون الأيدي، أو لا يبدون الرضى، في أقل تقدير.
ولا يختلف عنهم سائقو السيارات، وبخاصة سيارات الطاكسي. فما أن يتوقف أحدهم، في تلك المساحات الضيقة، التي تشبه الممرات، حتى تنطلق المنبهات من زملائه، ثم يبدأ الصراخ، ويشتد، فتظنهم سينتقلون إلى شيء أسوأ. وحتى حين تتحرك العجلات، فلا تتوقف المنبهات، بل تزيد وتزيد، ليعلم من في الأمام أن عليه أن يمضي بعجلة، وأنه لن ينعم بالرحمة، ما لم يتنح أو يتحرك.
ولا مكان على الرصيف لخطوة أخرى. لا مكان لنفس. لا مكان لظل. فكل المساحات مشغولة بعابر، أو بداع إلى متجره الذي يقدم نفسه بلوك أنيق، ويبهر بأضوائه، وألوانه، وتلك الموسيقى التي تنطلق من كل جهة، تبرز الطرب الشعبي التركي، وتهتز لها الأجساد هنا وهناك. ولا مكان، أيضا، داخل تلك المتاجر، والمطاعم، والبازارات. فهي مشغولة، حتى وإن كان أصحابها يطلبون المزيد. هل من مزيد؟
وبينما تتقدم أنت، بخطى بطيئة، مهما حاولت جعلها سريعة، بفعل الزحام الشديد، تكشف لك إسطنبول عن أشياء أخرى لم ترها من الطابق السادس، ومن السطح. تكشف لك عن السوق المصري، وبقية الأسواق، بالروائح، والعطور، و"العطرية"، والألوان، من حلويات، وفطائر، وأطعمة، ومشغولات ذهبية وفضية ونحاسية، وتذكارات، وغيرها. وتستدعي نظرك من الجانبين، بل ومن فوق كذلك، بتلك القباب العالية، المزوقة بالنقوش، وتتنزل منها الثريات بالأضواء.
مشهد رقم 4.. في العبارة البحرية..
منظر السياح وهم يتسابقون نحو الباب المفضي إلى العبارة مثير للدهشة (أكثر من 8 ملايين سائح أجنبي زاروا المدينة خلال الأشهر 7 الأولى من العام الجاري / وكالة الأناضول). كل منهم يريد أن يختار مكانا يسمح له بمشاهدة أفضل لمياه البحر. وفي لحظة تالية يُغلق الباب، ويقرر الحارس بألا مكان آخر لضيف جديد على العبارة. فتنطلق ليصبح بالإمكان رؤية الجانب الآخر، حيث تبرز، مجددا، معالم إسطنبول التاريخية، تحرس المكان كله. وبعض الأشجار، وبنايات بلا حصر ولا عد. وكأنك إزاء مرآة تعكس منظرا، وتغير فيه أشياء قليلة بفعل الحركة.
قال شاب ليبي، اسمه العريبي، وهو يبتسم، محتفيا بمغاربة يتحدثون لغته العربية:"ليست هذه المرة الأولى التي آتي إلى هنا. تعجبني إسطنبول كثيرا. إنها مدينة حلوة، وتفيض بالأشياء التي تستحق أن ترى". لم يخبرنا بالذي يعجبه أكثر في هذه المدينة الفوارة، ويجعله يعود إليها مرات، غير أنه نصحنا بشيء عجيب:"عليكم بالشوارع، وأنصحكم بألا تدخلوا إلى الأزقة، فتشاهدوا أشياء مستفزة". وابتسم، دلالة أن "افهموني".
ما حدث، لاحقا، وكان الظلام قد غلف المكان كله، وانتشرت الأضواء مثل نجوم في السماء، أننا دخلنا بعض الأزقة، في ذلك الجانب من المدينة، بالخطأ، وكنا نتغيى الوصول إلى برج سراي. وجدنا أنفسنا أمام مطاعم خاصة، معدة لرواد بعينهم، يبدأون حياتهم ليلا، بالكؤوس والنرجيلة، والضحك الصاخب، وخدمات أخرى. مطاعم بأضواء خافتة جدا، وموائد صغيرة، ومحسوبة. مقاه لروادها فقط.
في شارع تقسيم الشهير، الذي وصلنا إليه بعد ساعات من المشي، على أثر قائدتنا الشفاع، كنا إزاء معبر ممتد، وحيوي، فوار بالحركة، ونابض بالتجارة، ومشع بالأضواء والألوان. وكلما تقدمنا إلى الأمام إلا وجرت بعضنا رغبة في مشاهدة محل معين، وبخاصة تلك المحلات التي تبيع حلويات البقلاوة والكنافة والحلقوم، فضلا عن محلات العطور، والألبسة، وأيضا محلات الكباب، التي لا بد أن تقدم لك لبن "أيران"، المشروب الشعبي.
حين كنا نبتعد عن مجسم الاستقلال، الذي تحلق حوله كثيرون ممن يرغبون في التصوير، باحثين عن طاكسي يعيدنا إلى فندقنا القريب مشيا على الأقدام المتبعة، والبعيد عبر السيارة، طلب منا أحدهم 200 ليرة والآخر 300 ليرة. ثم تبين لاحقا، إذ عاد اثنان من الزملاء للمكان بحثا عن شيء مفقود، بأن ثمن الرحلة كان مبالغا فيه كثيرا، وأنه لا يتعدى 40 أو 50 ليرة. وربما أقل من ذلك. من يدري.
المشهد رقم 5.. بانوراميك ليلي..
من سطح الفندق، الذي يستعد صاحبه ليحوله إلى مطعم يرى منه رواده إسطنبول كلها، بدت المدينة، في تلك الأثناء من الليل، وكأنها استيقظت لتوها. الأضواء التي برَّزت المعالم السياحية، وفاضت من الأزقة الضيقة، ومن العبارات، وأماكن أخرى، دلت على أن هناك حياة جديدة تنطلق. الأصوات الصاخبة، والروائح، دلت هي الأخرى على أن لليل هذه المدينة سلطته مثلما للنهار سلطة.
الزحام نفسه كان ما يزال نابضا. فيه من جاء ليرى شيئا جديدا، ومن جاء ليزرع الشعر أو الأسنان أو يجمل أنفا أو شفة، ومن جاء ليكتشف سحر إسطنبول، ومن جاء ليشتري أشياء سمع عنها أو رأى من يتحدث عنها في يوتيوب، ومن جاء ليطالع عن كثب ما شاهده في مسلسل أرطغرل، ومن جاء لأنه يريد أن ينتهي من هنا وينطلق إلى مكان غيره.
أما أولئك المنهمكون مع صناراتهم على الجسور الرابضة على مضيق البوسفور، ولم يكن ممكنا رؤيتهم من سطح الفندق، فلعلهم كانوا يراقبون، كما تركناهم، تلك الخيوط غير المرئية وهي تسبح في ماء يعكس الضوء. ولأنهم يبدون أكثر من الأسماء التي يحاولون صيدها، يظن المرء أن همهم ليس الصيد بقدر ما هو البحث عن طمأنينة تكاد تكون مفقودة في مدينة صاخبة، لا تتوقف عن الحركة المفرطة.
وحده صوت الأذان، وهو يعلو بمقامات مختلفة، وبأصوات شجية، وبمد عجيب، من تلك المآذن التي تشبه سبابات توحد الله، وبجانبها قباب سنها المهندس سنان معمار، لغرض تقسيم الأثقال، وتفاديا للسواري، يتيح فرصة للصمت كي يبرز للحظات. ثم يأتي دور طائر النورس، ليصل بين ما تبقى من ليل إسطنبول ونهارها، بصوته القوي وهو يصرخ عاليا. كأنما لينال حظه من هواء المدينة، أو ليملأ فراغا لا ينبغي له أن يكون.
إسطنبول لا تنام. تصل ليلها بنهارها. كأنما هناك شيء تخاف أن يفلت منها، ولا أحد يعرف ما هو. تشغل زائريها، وتنشغل بهم. وتاريخها الذي يكاد يمشي مع الناس في الأزقة، مجسدا وفي كل شبر منها، يُرى على عجل أيضا. والبقية تأتي كلها بسرعة، كأنما في سباق.
هي مدينة لا تنتظر أحدا. وتحب جيوب السائحين.
مقالات ذات صلة
سياسة
مجتمع
رياضة
فن و ثقافة