مجتمع
مصاب بـ"كورونا": ليتني كنت سلبيا!
04/01/2021 - 12:28
مهدي حبشيلدى تبادل أطراف الحديث مع المُسنين، يعجز شاب مثل "سمحمد" عن استيعاب أقوالهم في نعي حيوية الشباب، التي حسبوها حتى وقتٍ قريب شعلة لا تخبو. فسمحمد يظن نفسه في منأىً عن انطفاء شعلته، أو على الأقل، فإن حالة الإعياء التام التي يصفونها ما تزال في عداد البعيد. كان ذلك إلى أن باغته استيطان الفيروس رئتيه، فأشعره بتعب عجز معه حتى عن حمل كأس ماء إلى متناول فمه.
"سمحمد" يبلغ من العمر 30 سنة، مُستوى "الماستر" العلمي الذي في حوزته خول له الارتياب في كون حالة الإرهاق تلك، المقترنة بارتفاع الحرارة والسعال الحاد، قد لا تعدو أن تكون زكاماً عابراً، أو لعله يُعاني "متلازمة الطالب"، ففي كل وسائل الإعلام، داخل المقاهي والبيوت وحتى في المساجد... لا عبارة تتردد أكثر من "كورونا". مع كل هذا الهوس بالفيروس التاجي، حق للمرء أن يتوهم أعراضه في كل وقتٍ وحين.
لكن فشله ذات صباح في استنشاق عبق قهوته، وما أعقبه من عجز عن تذوق طعمها، أفهمه أنه لربما يتوهم الإصابة بـ"متلازمة الطالب"، وليس بـ"كورونا".
"15 يوماً يصبح فيها للحياة معانٍ جديدة، كأن غشاوة تكشف عن عينيك، ويتجسد شبح الموت أما أنظارك". يُصبح الموتُ أقرب من حبل الوريد، يتربص بحياة المصاب بـ"كورونا" كما تتربص الضواري بفرائسها، وقد أمضى المصاب ما تقدم من عمره يتجاهله كأنه جبَّار إغريقي سمته الخلود والأبدية، أو كأن الموت محض أسطورة يتهامس بها الآخرون كما يتهامسون أسخف الإشاعات. هكذا غدت حالة "سمحمد" الذهنية مذ أفضى إليه رجل المختبر عن إصابته بـ"كورونا"، ودعاه لخوض حجرٍ منزلي مدته 15 يوماً، مع تناول بعض الأدوية والتضرع إلى مناعته أن تكون في مستوى المسؤولية.
يعيش "سمحمد" برفقة زوجته تحت سقف واحد، لم يمضِ على زواجهما السعيد سوى عامان، لكن لا حب في زمن "كورونا"، بل هي 15 يوماً يقضيها المرء كأنها 100 عام من العزلة. يكره "سمحمد" الاعتراف بذلك، لكنه لا يخفي أنّ "التباعد العاطفي" الذي فرِض عليه إزاء زوجته، وأنظارها تجاهه التي ما عادت تخفي خوفها من الفيروس الذي يُصاحبه، كانت أشد إيلاماً بكثير من أعراض "كوفيد-19".
"خلال الأيام الخمسة الأولى يبلغ المرض أشده، سُعال تشعر معه كأنك ستلفظ أحشاءك، حرارة بمستويات بركانية، وجسد يعجز حتى عن حملك إلى المرحاض أو المطبخ؛ حيث بات لزاماً عليك خدمة نفسك درءً لنقل الوباء إلى ذويك". ينضاف إلى ذلك كله، هذا الغموض الذي يلف مصير المصاب، القلق مِمّا إذا كانت مناعته مُدججة بما يكفي لطرد الفيروس من جسده، أم أن الفيروس سيطرده من الحياة؟
لا ينفي "سمحمد" أنه كان مستهتراً بـ"كورونا"، كمامته في معظم الأحوال لا تغطي سوى ذقنه، وإذا رفعها يكون ذلك عند مستوى فمه دون أنفه؛ يُعانق وينثر محبته على أقربائه وأصدقائه دون "حواجز"، بل يخجل من القول إن نظريات المؤامرة و"التهويل الإعلامي" للوباء دغدغت أفكاره ذات يوم. "رضيتُ بقدري وقلتُ في نفسي: إن استل الوباء روحي، فلن ألوم سوى استهتاري الذي ساقه إلي".
حالة الرضى بالقضاء والقدر لن تدوم طويلاً، فبعد أيام ستظهر أعراض "كوفيد-19" على زوجته، هنا فقط سيستبدل الرضى بمصيره بشعور وحشي بالذنب والمسؤولية، وسيعيش طيلة أسبوعين على وقع وساوس شيطانية؛ تهمس له بأنه قد يكون باستهتاره قاتل أقرب الناس وأحبهم إلى قلبه.
"إنها تجربة تعاش ولا تحكى"؛ يقول سمحمد بعدما اطمأن أخيراً لخلو رئتيه من القاتل الصامت، وأمن لشفاء زوجته كذلك، لكنه يؤكد بنبرة أسف أنه لو وسعته العودة في الزمن، لوبخ نفسه على تجربة مريرة جناها على نفسه، لا شك أنها ستخلف ندوباً عميقة في وجدانه ما بقي على قيد الوجود.
مقالات ذات صلة
مجتمع
مجتمع
مجتمع