سياسة
لعبة النسيان
10/06/2024 - 13:06
جمال الخنوسي
في الدورة الـ 76 من مهرجان كان السينمائي، قدم مخرج أمريكي فيلما عبقريًا حول محرقة أوشفيتز في بولونيا. اعتبره بعض النقاد أفضل ما أنتج حول الحرب العالمية الثانية على الإطلاق. "منطقة الاهتمام" فيلم درامي تم إصداره عام 2023 من إخراج جوناثان كليزر، مستوحى من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب مارتن أميس.
تتجلى عبقرية الفيلم في كون مفاتيح فهمه كلها تجري "خارج الكادر"، إما كـ"صوت خارج الشاشة" (Off-screen sound) وهو الصوت الذي يسمعه الجمهور ولكنه لا يأتي من مصدر مرئي في الكادر، أو كـ"حدث خارج الشاشة" (Off-screen action)، أي حدث يقع خارج نطاق رؤية الكاميرا ولكنه يؤثر على القصة أو الشخصيات.
يقدم كليزر، إذن، رؤية فريدة ومثيرة حول الحياة في معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية، مع التركيز على حياة قائد معسكر اعتقال وزوجته، صنعا لهما ولأطفالهما جنة صغيرة على الهامش المحيط بالمعتقل، أو ما تسميه الإدارة النازية The Zone of Interest، مكونة من حديقة خضراء وزهور مبهرة ومسبح... جنة صغيرة على حافة الجحيم.
لقد حاول الفيلم والرواية معًا تسليط الضوء على التناقض الصارخ بين الحياة اليومية العادية جدًا لهؤلاء القتلة، وحجم الفظائع التي يرتكبونها يوميًا وبشكل تلقائي.
حصل الفيلم على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، وظفر بإشادة واسعة من النقاد بسبب طرحه الجريء والمبتكر لموضوع حساس ومعقد. فقد جعل الأداء القوي للممثلين، بالإضافة إلى الإخراج المتميز، من الفيلم واحدًا من أهم الأفلام الدرامية التي تناقش هذا الموضوع الحساس. بل هناك من اعتبره فيلم القرن الواحد والعشرين. لأنه نظر إلى مأساة المحرقة من وجهة نظر مغايرة، تجعلنا نسائل أنفسنا كيف لأناس طبيعيين، يعيشون حياة طبيعية مع أطفالهم وحيواناتهم الأليفة، اقتراف فظاعات لا يتقبلها عقل الإنسان السوي. فظاعات لا نشاهدها بل نحسها ونفهمها من خلال الحذاء العسكري الذي يغسله الخادم فيصبح الماء بلون الدم، ومن خلال أزيز أفران أوشفيتز التي ترافقنا طيلة مدة الفيلم، ورماد الأجساد المتفحمة التي يستعملها البستاني سمادًا للورود الزاهية، والدخان المتصاعد عن بعد، ورائحة الموت التي تزكم الأنوف.
في آخر المطاف، فإن الفيلم لا يدور حول المحرقة فحسب، بل هو محاولة لتسليط الضوء على الجانب المظلم للطبيعة البشرية، وعلى جميع الفظاعات التي يقترفها الإنسان، المعادي لأخيه الإنسان، عدو الاختلاف، المضطهد للمهاجرين، والجاعل للكراهية برنامجًا انتخابيًا... إنه دعوة للتفكير والتساؤل: أين يرقد هذا الوحش داخل الإنسان؟ كيف يصبح الإنسان غير مبال بمعاناة الآخرين؟ كيف يمكن منع حدوث مثل هذه الفظائع في المستقبل؟
في فرنسا، فاز اليمين المتطرف ليلة 9 يونيو 2024، بالانتخابات الأوروبية، وحقق فوزًا ساحقًا وأرقامًا تاريخية. إنه حزب متطرف، علاقته مع النازيين الجدد لا تحتاج لدليل، وبرنامجه الانتخابي يقوم على معاداة الأجانب وكراهية المهاجرين. هل نسيت أوروبا أن الكراهية هي باب الفظاعات الكبرى؟ هل نسيت أن هتلر صعد للحكم في ألمانيا بطريقة ديمقراطية، وأن شعاره كان الخبز والعمل للألمان؟
بعد قرابة القرن، تعود الكراهية إلى أوروبا من باب صناديق الاقتراع. نسي بلد الأنوار وحقوق الإنسان، الدرس. فهل سيعيد التاريخ نفسه؟ هل هي طبيعة إنسانية لا يتحكم فيها تاريخ أو جغرافيا؟ هل هو ميلاد جديد لـ"منطقة الاهتمام"؟

مقالات ذات صلة
فن و ثقافة
تكنولوجيا
عالم
سياسة